عبد الإله بلقزيز *
انتصفت الولاية الثانية للرئيس جورج بوش، وما زال أمام البشرية سنتان من الأهوال والنوائب. وقد يكون من المبكر أن يجرد المرء حصيلة سنوات حكم الإدارة الأميركية الحالية أو أن يصدر على أدائها أحكاماً، لأنها ما زالت حاكمة على أعتاب الربع الأخير من ولايتها، وما زال في مُكْنَتها أن تمعن في ارتكابات سياسية أخرى جديدة، أو أن تصحح بعض ما قد ترتئي أن من الحكمة تصحيحه قصد ترميم صورة الجمهوريين المشروخة وإعادة تأهيلهم للمنافسة الرئاسية المقبلة، أو لتفادي الصدام بكونغرس خصم متحيّن الفرص لتسديد مزيد من الضربات للإدارة بغية تدفيع الجمهوريين غداً ثمن سياسات إدارتهم اليوم.
لكن ذلك لا يمنع من ملاحظة وتحليل الديناميات الحاكمة للسياسات الأميركية، في عهد فريقها الجمهوري المحافظ، والنتائج المترتبة عليها، وقيمتها في ميزان الربح والخسارة من زاوية المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. وهي ديناميات جدلية، وقد تقبل التلخيص في «القانون» = كلما ارتفع معدل الهجوم والنصر ارتفع مؤشر التراجع والهزيمة. يبدو «القانون» هذا تعاقبياً أحياناً (وهو كان كذلك ـــ على نحو خاص ـــ في الولاية الأولى)، لكنه كثيراً ما كان تزامنياً. يمكن، لهذا السبب، أن لا يكون سرد الوقائع والحصيلة سرداً تاريخياً (= تعاقبياً)، بل سردٌ مشهدي (= تقابلي)، وهكذا ينبغي أن تقرأ لوحة المعطيات التي سنقدّم.
اتخذت الدينامية الهجومية شكلاً دفاعياً استراتيجياً في صورها الثلاث الرئيسية: العسكرية والسياسية والإعلامية. نجحت ماكينتها الإعلامية في تجييش المجتمع الأميركي ـــ وقسم كبير من الرأي العام الدولي ـــ على «الإرهاب»، وفي تحويل مكافحته الى أمّ المسائل والمهمات في جدول أعمال السياسة الدولية على حساب قضايا الفقر، وسوء توزيع الثروة على الصعيد الكوني، والحقوق الوطنية للشعوب المهضومة حقوقها، والعدالة في السياسة الدولية، والتوازن في المصالح بين الدول، والشراكة في القرار الدولي، وحماية البيئة، واحترام حقوق الإنسان... إلخ. ولفترة اصطفّ الخطاب السياسي الدولي وراء الرواية الإعلامية الأميركية عن خطر «الإرهاب» ومفرداتها التزييفية. وسريعاً، ردد غير الأميركيين ما قاله الأميركيون عن «الإرهاب الإسلامي» ورددوا الالتباسات المقصودة في وعي الصلة بين المقاومة والإرهاب! (ألم يضع الأوروبيون «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«كتائب شهداء الأقصى» على قائمة المنظمات «الإرهابية»؟ ألم يوقفوا بثّ قناة «المنار» عبر القمر الاصطناعي الأوروبي؟).
ونجحت آلتها العسكرية في تحقيق هدفين كبيرين: احتلال أفغانستان وإسقاط نظام حركة «طالبان»، وغزو العراق واحتلاله وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين وتدمير الدولة وتفكيك الكيان. وفي الحالتين، نصّبت نظاماً متعاوناً من القوى الحليفة لها في البلدين ووفّرت له الحماية العسكرية والأمنية في وجه من حملوا السلاح ضده وضد المحتل. وقد وصل الأمر بتلك الاندفاعة العسكرية، في ابتداء أمرها، حدّ التطلّع الى استئناف مسيرها نحو دمشق وطهران اللتين لم تتجاوبا مع الاحتلال تماماً مثلما فعل نظام مشرّف في باكستان! ومثلما أثمر فلاحها العسكري نتائج سياسية فورية: توبة النظام الليبي، امتثال الأنظمة العربية المرتعدة فرائصها من القوة النارية الأميركية الهوجاء لإملاءات إدارة بوش بغير تحفّظ.
استثمرت أميركا نجاحاتها العسكرية سياسياً على الصعيد العالمي فأطلقت هجوماً (سياسياً) معاكساً على الدول والقوى التي رأت فيها آخر ما تبقى من مواقع اعتراضية في وجه قيام الإمبراطورية. زحفت الى الجوار القريب لروسيا فرَعَتْ عملية تغيير سياسي في أوكرانيا وجورجيا ذهب بحلفاء موسكو وجاء بـ«أصدقاء» واشنطن، ونجحت في الضغط لإخراج الجيش السوري من لبنان راعية عملية تغيير في التوازن الداخلي اللبناني وفي اتجاهات السياسة اللبنانية ووجهة ولاءاتها، ونجحت في تطويق ياسر عرفات ومصادرة سلطاته وتفويضها الى رئيس الحكومة (الذي أُحدِث منصبه لهذا الغرض حصراً) كما في إعادة تيار «أوسلو» الى الواجهة السياسية الفلسطينية، وأفلحت في إجبار النظام السوداني على قبول اتفاق «مصالحة وطنية» يهدّد بتمزيق وحدة كيانه الوطني، ونجحت في ترويض النظام الليبي ونزع أسنانه وأظافره (ولسانه) وتحويله الى نظام أليف، ثم أكملت حلقات سيطرتها على القرار الدولي وتطويع مجلس الأمن...
في مقابل هذه الدينامية الهجومية ونجاحاتها، وفي سياقتها وامتدادها وبالتوازي معها أحياناً، انحكمت السياسة الأميركية بدينامية تراجعية معاكسة حدّت من غلوائها وفرضت النظر الى رصيد ما حققته بحسبانه متواضع الحصيلة. فقد خسرت إدارة بوش حربها في العراق عسكرياً وسياسياً، ووجدت نفسها تثقل كاهل دافع الضريبة الأميركي بأعباء (400 مليار دولار) لا تتناسب كلفتها الثقيلة مع «الإنجازات»، ومن أجل لا شيء ما خلا إرسال الأميركيين الى الموت واستجلابهم العاهات البدنية والأمراض النفسية المزمنة! ودونما قدرة على وقف المقاومة أو على ضبط الأمن أو على إقامة نظام سياسي مستقر، وهي الأهداف المتواضعة التي طرحتها هذه الإدارة على نفسها بعد فشلها في أهدافها الكبرى (السيطرة على نفط العراق وتحويل البلد الى قاعدة نفوذ إقليمية في مواجهة الصين وروسيا، ومقدمة لتغييرات دراماتيكية في المنطقة في أفق «الشرق الأوسط الأوسع»!).
وتتعرض سياستها في أفغانستان الى نكسات متتالية يعبّر عنها العَوْدُ المفاجئ لعمليات «طالبان» العسكرية، والفقدان المتزايد للسيطرة على مناطق الجنوب (الباشتوني) الأفغاني، وتآكل شرعية نظام حامد كرزاي الداخلية، وهشاشة الأجهزة الأمنية للنظام العميل في كابول، وانتقال المواجهة مع «القوات المتعددة الجنسيات» من الشرق والجنوب الى العاصمة، بل الى مناطق نفوذ الطاجيك والأوزبك الأفغان (الشريك الأساسي في النظام الموالي).
أما في لبنان، فخسرت حرباً على المقاومة أرادتها حاسمة وقاصمة، ونزلت فيها بكل الثقل العسكري والسياسي وراء إسرائيل، قبل أن تتجرّع هي وإسرائيل كأس الهوان وتبدأ سياستها في لبنان طور ارتباك مديد تتفاقم معطياته اليوم على نحو ينذر بإفقادها المبادرة التي كانت لديها منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان.
وخسرت سياستها في فلسطين، بل سياستها في المنطقة التي أطلّت تحت عنوان الإصلاح و«نشر الديموقراطية»، حين أوصلت الانتخابات حركة «حماس» الى السلطة ابتداءً، وحين فرض انتصار المقاومة في لبنان ـــ ثانياً ـــ التراجع عن سياسة الضغط (الأميركي) من أجل الإصلاح، الى سياسة «حماية الاستقرار» وإنشاء حلف المعتدلين (= الرجعيات العربية الاستبدادية) ضد قوى المقاومة في المنطقة.
في الأثناء، وفيما كانت إدارة بوش تخسر أفضل حلفائها وعملائها الأوروبيين ـــ من طراز أزنار وبيرلوسكوني ـــ كانت خسارتها الأضخم في أميركا اللاتينية تتعمّق وتترسخ أكثر فأكثر. ورث بوش نصف قارة (أميركية) موالياً (ما خلا كوبا وفنزويلا) عن إدارات سابقة. لكن سياسته «الثورية» في مواجهة العالم أنتجت نقيضها الثوري المباشر في «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة. صمدت فنزويلا تشافيز أكثر وتحولت الى مثال، والى إقليم ـــ قاعدة في المحيط، فكَرّت سبحة اليسار في القارة لتتتالى انتصاراته الانتخابية الديموقراطية في البرازيل وبوليفيا والتشيلي والإكوادور ونيكاراغوا والبقية تأتي. جامعٌ وحيد بين أنظمة كاسترو وتشافيز وموراليس وأورتيغا... هو ـــ فضلاً عن الانتماء الى القارة نفسها وتداخل المصالح ـــ العداء للسياسة الأميركية عامة ولسياسات الإدارة الحالية خاصة. لكنهم جميعهم يدينون لهذه الإدارة بفضل السماح لهم بالوصول الى السلطة لأن سياساتها استفزت مصالح الأميركيين اللاتينيين ومشاعرهم.
وبعد، من المبكر الحكم على الحصيلة قبل أن تمر عاصفة الولاية الثانية. لكن في ما أشرنا إليه أكثر بكثير من عيّنة تمثيلية لمن يريد الحكم على هذه السياسات ووضعها في ميزان المكاسب والخسائر.
* كاتب مغربي