معن بشور*
هل كان المطلوب أن يعاني العراق كل ما عاناه طوال سنوات الاحتلال، من قتل ودمار واستباحة كل الحرمات، وتأجيج كل النزعات، لكي يكتشف السيدان جلال الطالباني ونوري المالكي ان معالجة مسألتي حل الجيش العراقي واجتثاث البعث تشكل اليوم جوهر المصالحة الوطنية في العراق.
لقد أثبتت التجارب، وكشفت التقارير والشهادات التي أدلى بها كبار السياسيين والعسكريين الأميركيين، أنه لا شيء يمكن ان يعوض العراق من جيشه الوطني الذي قام مع دولته المستقلة في أوائل العشرينيات، وضم في صفوفه أعداداً هائلة من العراقيين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والطائفية والمذهبية، وعرف بين قادته البارزين الكردي والعربي، السني والشيعي، وشكل للعراقيين محور إجماعهم الوطني، تماماً كما كشفت كل تلك التقارير والشهادات ان كل دورات التدريب التي جرت برعاية أميركية وأطلسية لم تنجح في ان تقيم للعراق جيشاً وقوى أمنية تحفظ أمن المواطن وحدود الوطن.
وبالمقابل فإن ما يشبه «الحرب العالمية» التي أعلنتها واشنطن وحلفاؤها وأدواتها لاجتثاث حزب البعث، ومطاردة البعثيين في العراق وخارج العراق، مستنفرة في سبيل ذلك كل أجهزة استخباراتها، وكل وسائل الإعلام الممولة منها أو من «أصدقائها»، وكل «المنظّرين» الذين شهروا أقلامهم وخناجرهم للإجهاز على البعث فكراً وتنظيماً وقادة وأعضاء، كل هذه الحرب لم تستطع اجتثاث هذه الحركة لأنه لا يمكن اجتثاث الحركات المتجذرة في مجتمعاتها، والأفكار المعبّرة عن مكنونات شعوبها التي تحيط بها.
فهل نجحت كل الانقلابات، مع كل البهرجة الإعلامية والإغراءات السياسية التي أحاطت بها، في إنهاء الأحزاب الشيوعية واليسارية في دول «المنظومة الاشتراكية» سابقاً؟ وهل نجحت كل حملات القمع الدموية وغير الدموية في بلادنا، وفي غير بلادنا، في القضاء على الحركات الاسلامية بمدارسها المتعددة؟ بل هل نجحت كل أنظمة الاستبداد على جبروتها في القضاء على بذور الليبرالية الكامنة في صلب مشروعنا النهضوي والتي نتنفس من خلالها نسائم الحرية والمشاركة واحترام حقوق الانسان.
لقد قطع الطالباني والمالكي، ومن وراءهما، نصف الطريق حين اعترفوا بأن جوهر المصالحة الوطنية في العراق يكمن في معالجة هاتين القضيتين الحساستين اللتين وقف بريمر و«مستشاروه» العراقيون وراءهما منذ الأيام الأولى للاحتلال، فكشفوا زيف «الديموقراطية» التي ادعوا أنهم جاءوا الى العراق انتصاراً لها حين حاولوا اجتثاث حزب وفكرة وتيار يحمل عروبة العراق ووحدته، وفتحوا على جنودهم المظلومين وعلى العراقيين الأبرياء معاً أبواب جهنم بكل ما في كلمة «جهنم» من معان ودلالات حين حلّوا الجيش العراقي وفكّكوا مؤسسات الدولة العراقية.
لكن الطالباني والمالكي، ومن وراءهما، ما زالوا يحتاجون الى قطع النصف الأصعب من الطريق لكي يلجوا بالفعل باب المصالحة الوطنية الحقيقية.
فدعوة «منتسبي الجيش العراقي السابق» الى العودة الى الجيش العراقي «الجديد» في «حدود قدرته على الاستيعاب» شيء، وإلغاء القرار الخاطئ الخطير بحل الجيش العراقي أساساً شيء آخر... الدعوة الأولى تثير بغموضها التساؤل والريبة والشك، فيما القرار المطلوب هو الذي يعيد الأمور الى نصابها، ويعيد للعراق جيشه الذي كان العمود الفقري لوحدته الوطنية، والدرع الواقي لأمنه الوطني والقومي، والذي ولد من رحم الشعب العراقي ولم يتألف من تحالف ميليشيات.
وعودة آلاف البعثيين الى وظائفهم والتعويض عليهم شيء، والإقرار بحق حزب عريق في المجتمع العراقي في العمل السياسي شيء آخر، فالعودة هنا هي معالجة انسانية لحالة أوجدها الاحتلال ولا تزول إلا بزواله، فيما الإقرار بحق حزب سياسي في العمل هو من أبسط مبادئ الديموقراطية التي تعتبرها الإدارة الاميركية والمتعاونون معها «شعاراً» تبذل من أجله «الغالي والنفيس».
فقبل عودة البعثيين المشروطة الى وظائفهم، أليس مطلوباً ان يعود آلاف البعثيين وغيرهم من شرفاء العراق الى بيوتهم من السجون والمعتقلات، وان يعود آلاف البعثيين وغيرهم من أحرار العراق الى بلادهم من المنافي القريبة والبعيدة.
ثم كيف يميز الطالباني والمالكي بين «البعثيين والصداميين»، هل يدخلون الى الصدور ويتفحصون مكنوناتها، وهل يتوغلون في القلوب فيعرفون مشاعرها وأحاسيسها، وهل يخترقون العقول ويعرفون ما يدور فيها من أفكار؟ هل «الصدامي» هو البعثي الذي يقاوم، فيما غير الصدامي هو الجالس في بيته يتفرّج على ما يجري لبلده؟ أم في الأمر حيلة جديدة كي يبقى كل البعثيين في قفص الاتهام من أجل ان يســـــــــــتدرجوا بعضـــــــهم الى أرذل التنازلات.
واذا كنا لا نجادل في ضرورة محاكمة كل من تلطّخت يداه بدماء شعبه، فأية محكمة قادرة في ظل الاحتلال ان تقيم محاكمة عادلة ونزيهة آمنة ومستوفية لكل الشروط القانونية، وخصوصاً بعد ما شهدناه في محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه من هتك لكل المسلّمات القانونية، وانتهاك لكل المبادئ الحقوقية، ومن فتك بالمحامين والشهود وبأصول المحاكمات؟
ثم اذا كان التورط في جرائم في حق الناس جريمة تستوجب ألا يفلت مرتكبها من العقاب، وهي بالفعل كذلك، فألا يحق لنا ان نسأل عن مصير الأفراد والجماعات والميليشيات والفرق والجيوش، المحلية منها والأجنبية، ممن ارتكبوا المجازر، وقتلوا مئات الآلاف من المواطنين وتسببوا بمقابر جماعية يومية من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال، وخصوصاً في العاصمة بغداد ومحيطها، ومارسوا أبشع أنواع التعذيب في المعسكرات والملاجئ وغيرها؟ ألا ينبغي محاكمة هؤلاء أيضاً، وإبعادهم عن العملية السياسية.
لقد كان الأجدى بالقيمين على الدعوة الى ما سمي «مؤتمر المصالحة الوطنية» ان يضعوا في أولوية برنامج مؤتمرهم بحث «جلاء المحتل الاميركي ــ البريطاني عن العراق» وجدولة هذا الجلاء. فلا شيء يوحّد العراقيين كإجماعهم على رفض الاحتلال (كما أظهرت كل استطلاعات الرأي بما فيها تلك التي نظّمها المحتلون أنفسهم)، ولا شيء يوفر المصالحة الحقيقية إلا تجاوز العراقيين، كل العراقيين، جراح الماضي والحاضر والمستقبل، في مناخ مناهضة الاحتلال ومقاومته بكل السبل.
ان طرد المحتل وإسقاط كل ما أتى به من الخارج، أو أطاحه من الداخل، هو العنوان الصحيح لأي جهد تصالحي بين العراقيين، وغياب هذا العنوان يدخل القوى العراقية المتنوعة في مسالك ودروب تغذي جميعها «الحلقة الدموية المفرغة» التي يدور في داخلها العراقيون منذ احتلال بلدهم في ربيع 2003، ولم تنجح في إخراجهم منها كل المجالس والحكومات المتوالية التي تعيد انتاج نفسها، وتكرس المحاصصة الطائفية التي باتت علة العلل في العراق بعد الاحتلال.
أما في العلاقات الداخلية بين العراقيين، وهي من دون شك مليئة بالحساسيات والرواسب والذكريات والجراح المؤلمة، فالمطلوب تكامل وتزامن بين عناوين أربعة سبق ان رفعناها منذ الأيام الأولى للاحتلال: مقاومة الاحتلال بكل الوسائل، مصالحة وطنية بكل الترفع والتسامح والصفح، مراجعة نقدية لتجربة كل القوى والأحزاب في الماضي والحاضر، ومشاركة حقيقية لكل مكونات المجتمع العراقي وألوان طيفه السياسي في صوغ مستقبل العراق، مستقبل التحرير والديموقراطية والتنمية.
تبقى كلمة صريحة «لليبراليين الجدد» من مثقفي «المواكبة» لاستراتيجيات «المحافظين الجدد» في واشنطن، لقد انكشف زيف ليبراليتكم حين التحقتم، من دون تبصّر، بموكب المهلّلين لقانون «اجتثاث البعث» وانغمستم، من دون أفق، في حمأة الهجوم على العروبة والاسلام، على القومية العربية وإطارها الجامع لأبناء الأمة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومشاربهم، على الحضارة العربية الاسلامية وقد ساهم في صياغتها كل العرب، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، والمسلمون جميعاً، أكانوا عرباً أم غير عرب. وعلى رغم ان «رفاقكم» حاملي مشعل الديموقراطية الى العراق قد ارتكبوا من الأخطاء والخطايا، من الجرائم والمجازر، أضعاف أضعاف ما جرى ارتكابه في العهد السابق للاحتلال، فإن كل ليبراليتكم و«حماستكم» لحقوق الانسان لم تحرّك في أقلامكم شطحة اعتراض، أية إشارة نقد، أو حتى علامة تعجب أو سؤال.
أما البعثيون في العراق، ومعهم كل شرفاء العراق من مقاومين للاحتلال من كل الانتماءات والتيارات الاسلامية والوطنية والقومية، فيكفيهم انهم، على رغم الأهوال، بقوا قابضين على الجمر، ثابتين على المبدأ، مدركين ان عروبة العراق وإسلامه هما ضمانة وحدته، وان وحدة العراق لا تقوم إلا على كاهل الأفكار والتنظيمات والتيارات العابرة للأعراق والطوائف والمذاهب، وهي التي كان العراق يضج بها، قبل ان يستسهل البعض اللجوء الى الإقصاء والإبعاد والاستئثار، وصولاً الى فكرة الاجتثاث أخيراً وهي التي كانت الوجه الآخر لفكرة «التقوقع» داخل جدران العصبيات العرقية والطائفية والمذهبية على أنواعها والتي تنفجر اليوم بأبشع أشكالها في العراق.
والبعثيون الأقوياء اليوم بإقرار خصومهم بأن المصالحة الوطنية الحقيقية لا تقوم من دونهم (بغض النظر عما يرتبط بهذا الإقرار من غموض مثير للمخاوف والشكوك المشروعة) مدعوون اليوم، أكثر من أي وقت مضى الى إجراء مراجعة جذرية وجريئة لتجربتهم ليبعثوا الاطمئنان بين أبناء شعبهم وأمتهم، الذين احتضنوهم، ورفضوا التخلي عنهم، في أصعب الظروف، فيؤكدوا بذلك ان الحزب الذي قاوم الأعداء المحتلين بهذه الصلابة والبسالة قادر أيضاً على مقاومة الأخطاء، وحتى الخطايا، بالدرجة عينها من الشجاعة والجرأة.
وأول عناوين المراجعة المطلوبة، ما تضمنه أخيراً برنامج «البعث ومقاومته»، الذي أكد ان عراق المستقبل هو العراق العربي الموحد، الديموقراطي التعددي، القائم على احترام الخصوصيات المتنوعة لمكونات مجتمعه المتعددة، المنفتح بثقة على أشقائه وجيرانه ودول العالم بعيداً من كل العقد والحساسيات، بل العراق المتجاوز والى الأبد فكرة «الحزب الواحد» أو «الحزب القائد» فلا واحد إلا الله، ولا قائد إلا الشعب.
* منسق الحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق