حسن عجمي *
نحن من نصنع التراث. لذا التراث قائم ومُحدَّد في المستقبل فقط؛ فهو يعتمد على مجهودنا في إنتاجه. نجد أن الشعوب المتطورة تملك تراثاً متطوراً، أما الشعوب المتخلفة فتملك تراثاً متخلفاً. هذا لأن الشعوب في الحاضر تخلق تراثها الماضي؛ فلا نص بدون تأويل. هذا هو الاتجاه السوبرأصولي الذي يقول إن الأصول المعرفية والدينية كامنة في المستقبل. فنحن الأحياء من نُحدِّد تراثنا من خلال تركيبه وفهمه وتوجيهه نحو الزمن الآتي. فالماضي صنع اجتهادنا والتاريخ يبدأ من المستقبل.
للسوبرأصولية فضائل عدة تدعم مشروعيتها ومنها: أولاً، إذا كانت الأصول مُحدَّدة في المستقبل فقط، إذن سنتحرر من سلطة الماضي. والتحرر من الماضي فضيلة بحد ذاتها. ثانياً، بما أن الأصول كامنة في المستقبل فقط، إذن لا بد من البحث المعرفي الدائم عنها. وبذلك نضمن استمرارية البحث المعرفي. واستمرارية البحث فضيلة. ثالثاً، بما أن الأصول مُحدَّدة في المستقبل فقط، إذن هي غير مُحدَّدة في الحاضر والماضي، وهو مما يؤدي إلى أنه من الطبيعي جداً أن تختلف التفاسير والتأويلات الدينية. هكذا تُفسِّر السوبرأصولية لماذا تختلف التفاسير ولماذا تنوعت المذاهب الفكرية واللاهوتية في الدين نفسه. وهذه القدرة التفسيرية للسوبرأصولية فضيلة أخرى لها.
يضيف الاتجاه السوبرأصولي أن التيارات الفلسفية والدينية المختلفة في التراث ليست سوى مواقف متنوعة في فلسفة اللغة. ففلسفة اللغة هي العامل الأساسي في تحديد مذاهبنا الدينية والفكرية، واختلافنا في بناء مذاهب علم الكلام والفلسفة سببه اختلافنا في تحليل المعنى واللغة. على هذا الأساس، المذاهب الدينية والفلسفية المختلفة تُعبِّر في الحقيقة عن فلسفة اللغة وليس بالضرورة عن الدين، الأمر الذي يجعلها كلها متساوية ومقبولة. هكذا نصل إلى قبول المذاهب المختلفة والتساوي بينها من منطلق السوبرأصولية. فبما أن الاتجاهات الفكرية والدينية المتنوعة تعبِّر عن فلسفة اللغة بدلاً من أن تُعبِّر عن الدين، إذن الدين مُحدَّد في المستقبل فقط. على هذا الأساس تؤكد السوبرأصولية على مركزية فلسفة اللغة عاملاً أساسياً في تحديد الفِرَق الدينية. واعتبارها أن الفِرَق الدينية كلها مقبولة ومتساوية هو فضيلة بحد ذاتها. أما الدليل على أن فلسفة اللغة هي التي تُحدِّد مواقفنا الدينية، فيأتي من التراث. فمثلاً، يقول ابن سينا إن المعنى هو ما تتصوره النفس. الآن، إذا كان المعنى هو ما تتصوره النفس، إذن المعنى لا يُحدِّده السياق. لكن التأويل الباطني للدين لا يعتمد على السياق في تحليل المضامين الدينية. من هنا يصل ابن سينا إلى تأويله الباطني للدين. من جهة أخرى، يرى ابن تيمية أن المعنى يُحدِّده السياق. لكن التفسير الظاهري للدين يعتمد على السياق في تفسيره الديني. من هنا يصل ابن تيمية إلى تفسيره الظاهري للدين. هكذا فلسفتنا في اللغة والمعنى تُحدِّد موقفنا الديني.
بالإضافة إلى ذلك، تؤكد السوبرأصولية أن الدين والعلم مقبولان معاً. فبينما الدين صادق في بعض الأكوان الممكنة الشبيهة جداً بعالمنا الواقعي، العلم صادق في بعض الأكوان الممكنة الأخرى الشبيهة جداً بعالمنا. هكذا تفصل السوبرأصولية بين العلم والدين لكنها تقبل بهما معاً. فبما أن العلم صادق في أكوان شبيهة بعالمنا، إذن العلم مقبول. وبما أن الدين صادق في أكوان أخرى شبيهة بعالمنا، إذن الدين مقبول. وبذلك يغدو كل من العلم والدين مقبولاً رغم اختلافهما وتعارضهما. السوبرأصولية مجرد فكرة ممكنة؛ فقط القتلة والقتلى يملكون الحقيقة.
* مؤلف وكاتب لبناني