عصام نعمان *
ما من قوة أساءت إلينا أكثر مما أسأنا نحن إلى أنفسنا. هذا درس التاريخ . لكن هل ترانا وعيناه واتعظنا بِعبَرِه القاسية؟
إن ما يجري في فلسطين والعراق اليوم، وما يُخشى أن يجري في لبنان غداً، يدل على أننا ما زلنا في جهلنا وجاهليتنا سائرين.
ليس أدل على جاهليتنا المعاصرة من أننا ما زلنا نُسقط على أعدائنا تهمةَ ما نحن فيه من سوء وفوضى وعجز. ثمة دائماً عدو خارجي مسؤول عمّا نحن فيه. إنه مصدر أزلي لشرور ألحقها بنا دونما مسوّغ، وما زال يفعل .
ليس من شك في أن لنا أعداء في كل زمان ومكان. لكن أليس من الطبيعي أن يتربص هؤلاء بنا الدوائر بدافع من مطمع أو مطمح أو مصلحة غير مشروعة؟ إن الحياة ملأى دائماً بأعداء وأصدقاء، فهل ننتظر من الأعداء أن يتصرفوا معنا كأصدقاء؟ ثم كيف لنا أن نتوقع منهم ذلك، ونحن نتصرف كأعداء أنفسنا بامتياز؟ هل يمكن الأعداء أن يكونوا أرحم بنا من أنفسنا؟
إنه حديث يطول ومحنة مزمنة ما فتئنا نعاني مفاعيلها من عصور وأجيال. أمَا آن أوان الاعتراف بأننا نشكو قصوراً فادحاً في الوعي، وعجزاً أفدح في توليد إرادة للنهوض والفعل؟
إن الذين أقرّوا في قرارة أنفسهم بأننا في معظمنا جهلة وجاهليون، وأن أزمتنا نابعة من ذاتنا وليست بالضرورة مصدّرة إلينا من خارج، هؤلاء ما انتظروا وعياً جماعياً يشيع فينا فجأة أو يقظة تنتابنا بقدرة قادر دفعةً واحدة، بل أدركوا أن الإبلال من مرضٍ يأتي تدريجاً، وأن على الأصحاء ألّا يُشغلوا بمعالجة المرضى بقدر ما يركّزون الجهود على مكافحة المرض، وأن ينخرطوا كلياً في هذا المجهود حتى لو أدى هذا الانخراط إلى تعريض انفسهم لمخاطر الداء في معرض مكافحته وابتداع الدواء له.
هؤلاء الأصحاء وعياً، الممتلئون إرادةً، والمندفعون ذاتياً للتصدي والتحدي والمكافحة والمواجهة هم المقاومون وأهل المقاومة. إنهم دائماً أقلية خلاّقة فاعلة في الأمة نيابةً عنها، وليسوا غالبيتها الغالبة. كانوا صحابةً من حول الرسول الأكرم في مكة، وأنصاراً انتصروا له في المدينة، وقلة في الأمة غلبت كثرةً كثيرة. إنهم أقلية خلاّقة تعمل فتنتصر، وعندما تنتصر تتكاثر.
المقاومة هي الأقلية الخلاّقة في عصرنا. إنها الطليعة المقاتلة في فلسطين والعراق ولبنان وفي كل مكان. ولئن تنطوي المقاومة في كينونتها على أصنافٍ وأطياف ومشارب ومذاهب، فإن ذلك نتاج طبيعي لحال الأمة في تنوعها (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا). فهل يجوز أن يصبح التنوع، وهو مصدر غنى ، سبباً للشقاق والتمزّق، وهو إضعافٌ وإفقار؟
محزن حتى السديم العظمي، هذه الأيام ، حال المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان، ومقلق ما يحوكه لها أعداؤها الداخليون من مؤامرات، وما يصطنعونه في سبيلها من عقبات كأنما المقصود من هذا كله أن يفقد أهل المقاومة مناعتهم الطبيعية والمكتسبة، فتصيبهم عدوى الأمراض التي تنهك جسم الأمة من حولهم، حتى إذا تمكّنت منهم، لا سمح الله، امتدت أيادي بعضهم إلى بعضهم الآخر في ما يحاكي عملية اغتيال. أليس ما يحدث في العراق وما يُخشى أن يحدث في فلسطين اليوم شيئاً من هذا القبيل؟ وهل نخدع أنفسنا مرة أخرى بأن نعزو ما نحن فيه من بلوى ومحنة إلى إسرائيل وأميركا فيما أيادينا تأخذ بخناق بعضنا؟
دقت ساعة الحقيقة وآن أوان الصدق مع النفس ومع الآخرين في فلسطين والعراق ولبنان وكل مكان. عدونا واحد: أميركا الصهيونية أو المتصهينة. سبيلنا إلى مواجهتها واحد: المقاومة المستمرة حتى النصر. نهجنا واحد: الوحدة الوطنية والجهاد المدني والميداني ضد أميركا المتصهينة وفي وجه وكلائها المحليين. مصدر قوتنا واحد: حقنا المستمد من الأمة في عقيدتها التوحيدية ومبادئها وقيمها ومصالحها الحيوية. برنامجنا المرحلي واحد: ما تستطيع جماعةٌ مقاوِمة أن تفعله وتنجزه وحدها بنفسها فلتتقدم وتُقدِم عليه بلا إبطاء. وما لا تستطيعه وحدهـا، وهو الراجح، فلتتعهد وتلتزم التعاون الوثيق من أجله مع نظيراتها وحليفاتها بلا تردد ولا مخاتلة. النكول بهذه القواعد مروق، والتضحية بحقوق الأمة ومصالحها عقوق. ليكن الاعتراف بهذه الحقيقة جهراً، والتغطية عليها وطمسـها عُهراً .
ترجمةُ هذه الحقائق في الواقع يكون على النحو الآتي:
أولاً، نهج مهادنة أميركا والتسوية مع إسرائيل أخفق بامتياز ، فلا يجوز أن يُلدغ مؤمن من جُحر مرتين، فما بال بعضنا من أهل المساومة وحتى من أهل المقاومة يعـود إلى المهادنـة والتسوية مرة بعد أخرى في شبه إدمان؟
ثانياً، مقاومة أميركا وإسرائيل تتطلب وحدة وطنية وجهاداً مدنياً وميدانياً .
ولا سبيل إلى النصر إلاّ بجبهة وطنية سياسية تنبثق منها أخرى للمقاومة ميدانية. وكل تقصير في هذين المجالين خدمة للعدو وانزلاق إلى لعبةٍ يتقنها هو، ولا ندرك نحن خباياها وخفاياها.
ثالثاً، ترجمة هذين المبدأين في فلسطين والعراق ولبنان تكون بإقامة جبهة وطنية للقوى السياسية المعادية لأميركا وإسرائيل، تنبثق منها جبهة لأطراف المقاومة موحدة أو لجنة قيادية على الأقل للتخطيط والتنسيق والنقد والتصحيح والتطوير.
رابعاً، مواجهة أميركا وإسرائيل، داخلياً وخارجياً في فلسطين والعراق ولبنان، لا تكون فاعلة في ظل موازين القوى السائدة، محلياً وإقليمياً ودولياً، إلاّ بإقامة حكومة اتحاد وطني بين القوى الحية والقوى المعادية لأميركا وإسرائيل وتلك التي ترفض التعاون معهما. وإذا تعذّر ذلك، فعلى القوى الحية ــ ولاسيما قوى المقاومة ــ أن ترفض المشاركة في الحكم فرادى وأن تلتزم العمل في المعارضة جماعةً.
خامساً، إذا أخفقت القوى الحية ومنظمات المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان في التوصل ــ بمنأى عن أميركا وإسرائيل، لأسباب مقبولة أو غير مقبولة ــ إلى تسوية عملية مشرّفة لإقامة حكومة اتـحاد وطني للمواجهة والبناء والإنماء والإعمار ، فإنها تكون ملزمة، بلا إبطاء وبإرادة طيبة وبقرار ذاتي وجماعي، بالاحتكام إلى الشعب لإجراء انتخابات ديموقراطية شفافة تفصل في قضايا النهج، والمضمون السياسي والاقتصادي والاجتماعي للسلطة، والتصحيح، والتطوير. هل تملك القوى الحية في الأمة، ومن ضمنها قوى المقاومة، قدْراً من الوطنية والجدّية والإرادة يمكّنها من الارتفاع إلى وعي التحديات والأخطار التي تواجهها في هذه الآونة، فتتبنى وتنفّذ نهج الارتقاء من الجاهلية المعاصرة إلى النهضة القومية والإسلامية المبدعة؟
هل مـن نهج آخر ، وطني وعملي فاعل، كي نحمي المقاومة من نفسها ؟
* وزير لبناني سابق