علي غريب *
يبدو أنه لا حل يلوح في أفق الأزمة السياسية في لبنان لا بل إنها تتجه الى مزيد من التعقيد في ظل رفض أية مبادرة سياسية تنقذ لبنان من أزمته الراهنة التي تغذيها الانقسامات المذهبية الداخلية والعوامل الخارجية التي تستخدم لبنان ساحة نفوذ لمشاريعها الخاصة ولا سيما منها المشروع الأميركي ــ الصهيوني. ومع اليقين الكامل بأن الصراع الدائر هو صراع سياسي وطني بامتياز إلا أن لبنان لم يشهد تفجراً لأزمات نظامه الطائفي كما يشهدها اليوم حيث وصلت الأمور الى درجة وضعت البلد كله أمام مخاطر مصيرية. فالأطراف السياسية من معارضة وأكثرية سلطوية يتقاسمون الطوائف اللبنانية ومذاهبها ويستنفرون في مواجهة بعضهم بعضاً أمواجاً من البشر ويستحضرون كل شيء سوى المطالب الإصلاحية والاقتصادية والاجتماعية، فأي مصير ينتظر الجميع وهل بات هذا النظام السياسي ــ الطائفي قدراً على اللبنانيين يستحضر الحروب والأزمات كل عقد أو عقدين من الزمن؟! لقد اعتقدنا بأن الانتصار الكبير الذي تحقق على العدو الإسرائيلي قد يفتح باباً لبناء الدولة القوية العادلة إذا ما أحسن تثمير الانتصار بمراجعة نقدية من الجميع ولا سيما من حزب الله بعد ما حصل في تجربة ما بعد تحرير القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية عام 2000، وذلك الانتصار الذي استخدمته الفئة السياسية الحاكمة وجيّرته لمصلحتها ولتثبيت سلطتها في ظل الوصاية السورية. فكيف الحال اليوم والوصاية الأميركية ــ الفرنسية على أشدها، فهل يجهض الانتصار الأخير مرة ثانية؟!
إن السياسة التي اتبعها حزب الله بعد عام 2000 شكلت عاملاً رئيسياً في إعادة تثبيت سلطة التحالف الطائفي الرأسمالي ولا سيما سلطة الأكثرية الراهنة، ما سهّل للعدو مغامرته الجديدة في إعادة الانتقام لهزيمته السابقة وفي خدمة المشروع الأميركي في المنطقة. لقد اعتمد حزب الله انطلاقاً من مخاوفه على المقاومة وسلاحها مسايرة الآخرين والتنازل أمامهم مقابل تغاضيهم عن سلاح المقاومة وبدلاً من توسيع تحالفاته أمام الهجوم الأميركي ــ الصهيوني المباشر على المنطقة في اتجاه بناء أوسع تحالف وطني ــ ديموقراطي مقاوم اختار الاحتماء بالطائفة الشيعية ثم وسّع تحالفاته الى الحلف الرباعي الإسلامي معتقداً أن ذلك يوفر الحماية للمقاومة مقابل تنازلاته أمام أطراف ذلك التحالف، وهذا ما شهدناه في الانتخابات النيابية في الوقت الذي كان ظاهراً فيه للجميع تحالف بعض أطراف اللقاء الرباعي مع بعض القوى والشخصيات المرتبطة بالمشاريع الخارجية الغربية.
والجانب الآخر من سياسة المقاومة هو إدارة ظهرها للجانب الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي وللإصلاحات السياسية داخلياً تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة. وكان في نهاية الأمر أن قضي على الانتصار لمصلحة وصاية جديدة وأكثرية حاكمة هي أكثر إساءة وفساداً واستهانة بالسيادة والتفريط بالوطن من أية سلطة سابقة.
وها نحن اليوم أمام مشهد من نوع آخر وفي ضوء النتائج السابقة طرح مجدداً شعار التحرير المتلازم مع التغيير لحماية المقاومة ونهجها ولبناء استراتيجيا دفاعية حقيقية قائمة على سلاح المقاومة والشعب والجيش وعلى قاعدة أن قوة لبنان في قوته لا في ضعفه وهذا يستوجب نهجاً آخر يؤدي الى بناء سلطة ذات طبيعة وطنية تحمل مشروعاً وطنياً بأبعاده المرتكزة على الهوية الوطنية والإصلاحات السياسية والاقتصادية وبناء علاقات لبنان الخارجية على أولوية المصلحة الوطنية. من هنا طرح البعض من القوى السياسية ومنذ الأيام الأولى لوقف العدوان الإسرائيلي مهمة إسقاط السلطة الحاكمة بعد تواطئها وتخاذلها وتخلّيها عن أولى موجباتها بالدفاع عن السيادة والأسرى والنازحين. وما قاله سماحة السيد حسن نصر الله في كلمته الأخيرة الموجّهة الى المعتصمين عن هذه الحكومة وممارساتها وارتباطاتها الخارجية بعد أربعة أشهر تقريباً من وقف العدوان كان ينبغي أن يصارح به الناس بعد أربعة أيام مباشرة على الانتصار الكبير على إسرائيل. وخشيتنا تزداد مرة أخرى من تضييع هذا الانتصار من حيث تتكرر تلك السياسة وتقع مجدداً في لعبة أهل النظام السياسي الطائفي أنفسهم، فبدلاً من المطالبة بإسقاط الحكومة يتم التراجع الى القبول بتوسيعها وبرئاسة السنيورة نفسه المتهم كل يوم من جانب المعارضة عبر الوثائق والإعلام بارتباطاته الخارجية، وعلى رغم التفاؤل الكبير بطرح سماحة السيد حسن نصر الله شعار بناء الدولة القوية العادلة، إلا أن الممارسة السياسية لا تصب في خدمة بناء تلك الدولة المرجوة. ومرة أخرى نحن أمام شعارات الديموقراطية التوافقية والمشاركة في الحكم والثلث الضامن وقانون انتخابي عادل. هذه كلها لا تؤسس لأي تغيير ولو جزئي في الدولة الراهنة ونحن لا نقلل من شأن شعار الثلث الضامن، المعطل لقرارات السلطة المرتهنة لأميركا وفرنسا. لكن ماذا يغيّر هذا المطلب في بنية النظام السياسي الطائفي ونهج السلطة الحاكمة؟! وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على تغليب وجه واحد من وجوه الصراع هو الوجه الإقليمي للصراع بينما نرى أن الفصل بين الإقليمي والداخلي هو نقطة الضعف الكبيرة في شعارات المعارضة وحركتها السياسية. كان الأحرى توجيه الجهود نحو تأليف جبهة سياسية وطنية ديموقراطية مراهنة على هذه الجماهير المحتشدة في الساحات وعلى تنوع القوى السياسية المعارضة لصياغة برنامج شامل يقوم على مقاومة المشروع الأميركي ــ الصهيوني من جهة، وعلى الإصلاح السياسي والاقتصادي من جهة أخرى. وما محاولات طاولة الحوار والتشاور وفشلهما سوى دليل على ان الانقسام الحالي لا يدفع أياً من الطرفين على تقديم التنازلات لأن أهل السلطة يلجأون الى استنباط كل الوسائل واستغلال كل حالات الاغتيالات واستخدامها في الصراع الداخلي ولا سيما المحكمة الدولية التي ارتكزوا عليها للتهييج المذهبي وقد نجحوا في ذلك فكان توقيت استقالة الوزراء الشيعة وكأنه رفض للمحكمة الدولية، بينما كان ينبغي أن تكون الاستقالة واضحة وحاسمة منذ الأيام الأولى لوقف العدوان والمطالبة بإسقاط الحكومة على تقصيرها وتواطئها وشبهات العلاقة القائمة بين أركانها أثناء العدوان.
واللافت في تحرك المعارضة بعد قرار نزولها الى الشارع وبعد الحشد الجماهيري الهائل وكلمة السيد حسن نصر الله الذي قال في نهايتها «إذا أردنا أن نكون معاً... يجب تأليف حكومة وحدة وطنية»، التراجع عن هذا المطلب لمصلحة الثلث الضامن. هذا الحشد لو حصل في أي بلد من العالم لغيّر وجه النظام السياسي للدولة برمته. ومن الخطأ الكبير تاريخياً تحجيم هذا الحشد لمطلب إن تحقق فلا ينتج سوى حكومة شبيهة بكل الحكومات التي تعاقبت على حكم لبنان والتي لا هم لها سوى المحافظة على النظام السياسي الطائفي والمحاصصة والمذهبية. هذا النظام القادر تاريخياً على توليد التناقضات وإعطاء الصراع السياسي الوطني طابعاً طائفياً ومذهبياً، استطاع مجدداً تحويل الصراع الحالي الى صراع ذي أبعاد مذهبية ما شكل مأزقاً للمعارضة قبل السلطة الحاكمة. هذا الشعب من حقه على المعارضة وعلى كل قوى التغيير أن تجيّر حركته الى المستوى الذي يوفّر له تغييراً بنيوياً على مستوى السلطة وتوجّهاتها وخياراتها، والعيش الكريم بالقدر نفسه الذي يضحّي به لحماية أرضه ووطنه، من حق هذا الشعب أن تبنى له الدولة القادرة والعادلة التي رفع شعارها كل أطراف المعارضة.
ونعتقد هنا ان المبادرة التي أطلقها الحزب الشيوعي اللبناني تشكل المدخل الأفضل لحل الأزمة الدستورية والسياسية على السواء. هذه المبادرة تفتح الباب أمام بناء الدولة العادلة وتفتح على إثرها أفقاً للشباب اللبناني الذي نخشى أن يكتمل الإحباط واليأس لديه بعدما خبر شارع 14 شباط ويختبر اليوم شارع 8 آذار. إن قدرة أهل النظام السياسي الطائفي على جرف الصراع السياسي الوطني في اتجاهات مذهبية تدفعنا الى القول «إن على اللبنانيين أن يدركوا أن انتصار أي من الفرقاء في ظل الصراع المذهبي والطائفي وفي ظل غياب المطالب الإصلاحية للنظام السياسي لا يقدم خلاصاً حقيقياً للبنان سواء كان المنتصر أياً من الشوارع المتقابلة وجلّ ما يستطيع المنتصر والمهزوم تقديمه هو تعميق الانقسامات المذهبية بين اللبنانيين التي لا مصلحة حقيقية فيها للجماهير المحتشدة في الشارعين».
* كاتب لبناني