سعد الله مزرعاني *
في مقالتين في «الأخبار» بتاريخ 8/12 و14/12/2006، عرضنا أزمات لبنان وأسباب تفاقمها واستعصائها ومدخل معالجتها: بإصلاح النظام السياسي الطائفي، وبناء مؤسسات على أساس المساواة في المواطنية، تأليف المرجعية لمعالجة الأزمات أو امتصاصها، على الأقل. عرضنا في هذا السياق إمكان أن يشكل تطبيق دستور الطائف المقدمة المناسبة لذلك عبر تفعيل وتنفيذ المواد فيه ذات الأرقام 22 و24 و95. أكدنا في هذا السياق على دور سوري مساعد. أكدنا أيضاً ضرورة أن يكون لبنان في موقعه الطبيعي في الصراع ضد العدوان الإسرائيلي وضد استهدافات المشروع الأميركي الشرق أوسطي.
ويطرح السؤال، حتماً: من ينهض بهذه العملية. من هي القوى المطالبة بأن تأخذ دورها في هذا المسار الذي بات طابعه ملحاً وإنقاذياً؟
ــ بديهي ان تتجه الأنظار أولاً صوب القوى والشخصيات التي يقع إلغاء الطائفية السياسية في صلب نهجها وقناعاتها السياسيَّين. وهذه القوى، أحزاباً ومنابر وشخصيات، مطالبة بإعطاء أولوية لمسألة إصلاح النظام السياسي، أولوية وطنية صريحة وحازمة. ويجب أن تتحول هذه الأولوية، الى مقياس في علاقاتها مع الآخرين. والمقصود بذلك، أن تمتلك هذه القوى من الاستقلالية ما يكفي للدفاع عن هذه الأولوية إزاء كل مقاربة أخرى، عندما يتعلق الأمر بمعالجة الوضع اللبناني وطرح شؤونه وشجونه. من المعروف ان الأمر ليس كذلك الآن، وأن بعض تلك القوى تفتقر الى الحد الأدنى من النهج الاستقلالي بسبب جملة من القناعات أو العلاقات أو المصالح. وعندما تحزم هذه القوى أمرها، فإنها مطالبة بتنسيق مواقفها وتحركاتها ونشاطاتها، وخصوصاً في مجال العمل الإعلامي الواسع، ترويجاً لأولوية إصلاح النظام، وتوضيحاً للأهمية الوطنية والمصيرية لهذه الأولوية.
وبديهي أن الاتجاهات الأكثر جذرية بين هذه القوى، يجب أن تأخذ المبادرة إلى اقتراح الصيغ وأشكال العلاقات والنشاطات.
إن تحرك القوى المذكورة، بشكل موحّد، سيمنح قضية المعالجة بالإصلاح مدى وطنياً، تتحرك أيضاً في نطاقه كتلة شعبية كبيرة: مؤسسات مجتمع مدني، ومواطنون يتوقون الى الانتماء لموقع ديموقراطي وغير طائفي. وطبيعي أن صيغاً جديدة يمكن أن تستحدث لهذا الغرض: صيغ ذات طابع ديموقراطي أو يساري أو وطني (المهم الأولوية المذكورة آنفاً)، الى جانب الأطر والصيغ القائمة.
ــ ثمة أيضاً، في الواقع اللبناني الراهن، قوى أخرى مدعوة الى اعتماد مقاربة جديدة حيال أزمات لبنان وسبل معالجتها. وسبب هذا الاستنتاج هو معاناة هذه القوى من سلبيات النظام الطائفي، ما برز منها حتى الآن، وما هو متوقع بروزه في وقت قريب لاحق:
أ‌ ــ عند تعداد هذه القوى، سيبرز أن بعضها كان في فترة سابقة صاحب اليد الطولى في مؤسسات النظام اللبناني، كل مؤسساته. هذا ينطبق أساساً على تشكيلات سياسية وروحية متنوعة تعمل في الوسط المسيحي، وتعبّر عن القلق الذي تعيشه هذه التشكيلات، مواقف الكنيسة المارونية المتأففة من الوضع الراهن واحتمالات تفاقم انعكاساته السلبية على الجمهور الذي تمثل. لقد تحدثت بياناتها الشهرية الأخيرة عن «تعدد الدويلات داخل الدولة»، وعن الأخطاء التي ارتكبها الجميع عندما «تفرّدت فئة» (من مشروع إيزنهاور الى حرب تموز الأخيرة)، وعن خطر الارتباط بالخارج على وحدة اللبنانيين وعلى سيادتهم ومصالحهم.... وقد تتحول هواجس الديموغرافيا في هذا الصدد الى فعل إيجابي على غرار ما ينصح به مصلحون متنوّرون من أمثال المطران غريغوار حداد (الذي «استحق» إهانة على يد أحد المتطرفين المدعومين بسبب تبشيره بالإصلاح). والمقصود بذلك أن «المناصفة» الطائفية ليست هي الضمانة للمسيحيين في واقع ديموغرافي متزايد الاختلال، بل هي مصدر توتر وخلل. والضمانة الحقيقية هي في المساواة بين المواطنين يحميها نظام ديموقراطي مدني يوفر للبنانيين كل الضمانات الضرورية لممارسة حرياتهم وحقوقهم من دون نقصان.
ب‌ ــ ويطلق «التيار الوطني الحر» برئاسة العماد ميشال عون، حركة إيجابية كبيرة في هذا السياق، تشكل بدورها ظاهرة بالغة التأثير في المسار التاريخي الراهن.
ج ــ ومن جهة ثانية تطرح تجربة قوة كبيرة ومؤثرة كـ«حزب الله» جملة من الأسئلة والتساؤلات: فلقد استفاد هذا الحزب من المناخات التقليدية في لبنان ووجّهها في اتجاه ديني، فضلاً عن منطلقها الطائفي في «التركيبة» اللبنانية. إلا أن نجاحات وتجارب الحزب في حقل مقاومة العدو، قد جرت محاصرتها أيضاً في نطاق النظام السياسي الطائفي الى درجة.... الاختناق. و«حزب الله» مطالب اليوم بالفصل الحاسم بين مصادر تعبئته (ومنها العقيدي الديني)، وبين النظام السياسي الأنسب للبنان وللبنانيين، بعد تراكم أزمات النظام اللبناني. ويستطيع أي مراقب أن يلاحظ الفارق الهائل ما بين الآفاق الرحبة التي فتحتها تجربة وانتصارات الحزب في الصراع مع العدو الإسرائيلي (آخرها انتصاره في حرب تموز ــ آب)، وبين الهجوم الذي يتعرض له الآن، والذي يستفيد أصحابه من «خصوصيات» الوضع الطائفي اللبناني!
د‌ ــ ويجب أن ننوّه، هنا، بالدور الذي يؤديه عدد من الشخصيات الوطنية في الدعوة الى التخلص من الطائفية وفي كشف مضارها. ومن بين هؤلاء الرئيس سليم الحص الذي قادته تجاربه الغنية في السلطة وخارجها، الى استنتاجات ثمينة تضع قضية إصلاح النظام في أولوية المهمات الوطنية الراهنة. كذلك ثمة قوى أخرى، قد انتقلت جزئياً أو كلياً، الى مواقع جديدة، في الموقف من المسألة الطائفية. وهذه القوى تستحق كل التشجيع، ليتحول تناقضها الراهن مع قوى تستأثر بمواقع النفوذ الطائفي الراهن، الى سياسة ونهج ثابتين في تقرير مواقفها وعلاقاتها...
ه ــ ولا ينبغي إهمال أي توجه، ولو لفظي، يقول بضرورة الإصلاح، وإن كان صاحبه يمارس العكس. ذلك أنه بتأثير عمل وطني كبير من أجل التغيير، يمكن كسب قوى إضافية يحتاج إليها، بالفعل، توليد ميزان قوى سياسي ــ شعبي لمصلحة البديل الديموقراطي للنظام الطائفي اللبناني.
ما تقدم يستدعي ورشة نقاش مثابرة وهادفة وواسعة. وعلى هذه الورشة أن تبلور الحد الأدنى المطلوب والضروري لإطلاق مشروع الإصلاح في لبنان، كمهمة وطنية وتاريخية، في هذه المرحلة المصيرية التي يمر بها لبنان خصوصاً، والشرق الأوسط عموماً.
ويتكامل هذا الأمر مع جهد جاد ينبغي أن يبذل في اتجاه الشقيقة سوريا: من موقع الحرص على العلاقة التي يجب أن تكون ممتازة بين الشعبين، ومن موقع توفير أفضل الشروط لمواجهة العدوان الإسرائيلي الذي يستهدف كلا البلدين، ومن موقع مواجهة أفعل لمشروع الهيمنة الأميركي على المنطقة الذي بات لبنان ساحة رئيسية من ساحات فعله، وسوريا هدفاً كبيراً من استهدافاته. إن توظيف علاقات التحالف والتعاون بين بعض القوى المدعوة للانخراط في مشروع الإصلاح والسلطة السورية بعد مراجعة جذرية وتغيير، هو أمر جوهري في سياق توفير الشروط الأكثر أهمية لنجاحه.
* نائب أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني