ماجد عزام *
الأزمة السياسية المستعرة والمتأججة والمتصاعدة في الأراضي الفلسطينية هي نتاج لعديد من العوامل والظروف والحيثيات التي حكمت وتحكّمت بالعمل الفلسطيني منذ سنوات عديدة. في البدء يجب التأكيد على الاحتلال الإسرائيلي البشع والبغيض لكونه أحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى التأزم على الساحة الفلسطينية وعلى مستويات عدة سياسية واقتصادية واجتماعية، غير أن هذا الأمر يجب ألّا يحجب الحقيقة عن الأبعاد والعوامل الفلسطينية الداخلية التي ساهمت، وما زالت في تأجيج الأزمة وتصاعدها، علماً بأن الخطاب اليائس والزائد للرئيس محمود عباس السبت الماضي لم يفعل شيئاً أكثر من صب الزيت على النار أو رش الملح على الجرح الفلسطيني المفتوح والمزمن. وعموماً أعتقد أن فهم الأزمة بشكل صحيح وجاد يستوجب وصفها ضمن السياقات التالية:
ــ أولاً: الأزمة السياسية التي تعصف بالساحة الفلسطينية هي نتاج لحكم الفرد وتحديداً نتاج الطريقة التي أراد بها المرحوم الشهيد ياسر عرفات السلطة الفلسطينية، وقبل ذلك منظمة التحرير وحركة فتح. الشهيد رحمه الله أفرغ المؤسسات من محتواها ومنعها من أداء عملها الطبيعي واختصر كل المنظومة السياسية بشخصه، رغم حسن النية الذي طبع إدارة الأمور في معظم الأحيان. والنتيجة أن رحيل القائد والزعيم والرمز أدى إلى فراغ هائل على الساحة الفلسطينية لم يستطع أي شخص أن يملأ هذا الفراغ، بينما حال ترهل المؤسسات وفسادها وتحجرها دون التصدي للعبء الثقيل الذي تركه الزعيم الراحل.
ــ ثانياً: الأزمة الفلسطينية هي نتاج منطقي لحالة الفوضى التي تعصف بالأراضي الفلسطينية منذ سنوات، وهذا الأمر يعيدنا مرة أخرى للحديث عن المرحوم الشهيد ياسر عرفات، فهذا الأخير أراد إيجاد نوع من الفوضى البناءة، ولكن على طريقته، لإجبار إسرائيل وأمريكا وحتى الدول العربية لطلب النجدة والمساعدة في إطفاء لهيب الفوضى التي تؤثر سلباً على المحيط الفلسطيني، غير أن الرد جاء غير ما اشتهى الرئيس عرفات، حيث خضع العرب للمنطق الإسرائيلي والأميركي القاضي بعدم الاعتراف أو التعامل مع أبو عمار واعتباره غير ذي صلة والمضي قدماً في حصاره وعزله، وصولاً إلى اغتياله مع حرص على إبقاء الفوضى في أضيق نطاق ممكن وإبقائها ضمن وتيرة منخفضة والحد من تأثيرها السلبي، سواء على إسرائيل أو على الدول العربية المحيطة.
ــ ثالثاً: الأزمة الفلسطينية هي نتاج لغياب الرؤية وغياب العقل الفلسطيني الاستراتيجي الذي يجتهد ويكد من أجل وضع تصورات فلسطينية واضحة وقاطعة ومستقبلية لجميع الاحتمالات والتطورات. والأكيد أننا لم نفعل، بدليل أننا افتقرنا إلى رؤية موحدة تجاه مرحلة ما بعد الزعيم والقائد ياسر عرفات وافتقرنا إلى الحد الأدنى من الاتفاق والتفاهم على مرحلة ما بعد فك الارتباط والانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة الذي تم التعامل والتعاطي معه بسذاجة وببساطة دون أدنى دراسة أو قراءة لدلالاته وتداعياته الاستراتيجية على الساحة الفلسطينية. كما أننا افتقرنا إلى رؤية أو تصور مشترك للحزمة الانتخابية، وتحديداً الانتخابات التشريعية التي بدلاً من أن تكون خطوة على طريق ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني وتمتين الوحدة الوطنية، لا لمصلحة إعطاء الأولوية للصراع مع العدو، تحولت إلى خطوة على طريق تعميق الانقسام الداخلي وتهديد الوحدة الوطنية وصولاً إلى الاقتتال الداخلي وحتى الحرب الأهلية ولكن بوتيرة منخفضة.
ــ رابعاً: الأزمة الفلسطينية هي أيضاً نتاج طبيعي للاستقطاب الثنائي الحاد بين فتح وحماس. ففتح أو القيادة المتنفذة فيها خاضت الانتخابات التشريعية بغرض اكتساب الشرعية والشعبية الضرورية من أجل قيادة المشروع الوطني في الفترة المقبلة، وتحديداً من أجل المضي قدماً في مشروع التسوية البائس الذي انغمست فيه منذ عشرين عاماً تقريباً. والقيادة نفسها لم تتصور يوماً ولا حتى ساعة أو دقيقة إمكان أن تخسر الانتخابات، وعندما حصل هذا الأمر فقدت توازنها النفسي والسياسي والوطني والتنظيمي وصار كل همها العودة للسلطة من جديد وعرقلة وإفشال ووضع العصي في دواليب حركة حماس حتى لو كان الثمن الاقتتال الداخلي أو الحرب الأهلية. أما حركة حماس فقد خاضت الانتخابات لاكتساب الشرعية الشعبية والديموقراطية بعد اكتساب الشرعية الجهادية والنضالية. لم تفكر حماس في إمكان تحقيق النصر وفوجئت الجمرة الساخنة والملتهبة وحتى المشتعلة تقع بين أحضانها دون أدنى استعداد أو تحسب.
ــ خامساً: الوجه الآخر للاستقطاب الثنائي بين فتح وحماس يتمثل في عجز ووهن بقية الأطراف على الساحة الفلسطينية التي فشلت في خلق وإنتاج طريق ثالث جاد وحقيقي وواقعي بعيداً عن ثنائية حماس وفتح ووقعت في فترات طويلة أسيرة للحوارات العقيمة بين حماس وفتح بشأن اقتسام السلطة وللصدامات الدموية بين الطرفين والاكتفاء ببيانات الشجب والإدانة أو بالوساطات العاجزة عن التأثير على الواقع الميداني على الأرض.
ــ سادساً: لا يمكن الحديث عن الأزمة الفلسطينية دون التطرق للخطاب اليائس للرئيس محمود عباس. فهذا الخطاب، كما كان متوقعاً، صب الزيت على النار وأدى إلى زيادة حدة الاقتتال الداخلي وارتفاع عدد الشهداء والجرحى في الاشتباكات الداخلية. والرئيس يعي جيداً أنه لا يملك الصلاحيات الدستورية والقانونية للدعوة إلى انتخابات مبكرة، ويعي أن انتخابات كهذه لا يمكن أن تجري في ظل رفض أكثر من نصف الشعب الفلسطيني لإجرائها في هذا الوقت. وكما أن الرئيس بعد ستة عشر عاماً من التفاوض اليائس والعديم الجدوى لم يعلن وصول المفاوضات مع إسرائيل إلى طريق مسدود بينما لم يصبر أكثر من عدة أشهر لإطلاق هذا الوصف غير المسؤول على المفاوضات مع حماس.
ــ سابعاً: بعد خطاب السبت الماضي وحتى قبل ذلك باتت الساحة الفلسطينية أسيرة لثنائية الانقلاب والحرب الأهلية التي هي في أحد أبعادها ترجمة لثنائية حماس وفتح. فالانقلاب بدأ منذ صباح السادس والعشرين من كانون الثاني ــ يناير 2006 عندما بدأت عملية منهجية لسرقة واختطاف ومصادرة صلاحيات الحكومة لمصلحة الرئاسة الفلسطينية. والحرب الأهلية بدأت يوم اتضح أن الحكومة باقية رغم كل ما مورس ضدها وأن إزاحتها تمر حتماً عبر جرها إلى استنزافات داخلية مرهقة ومكلفة. وبين الانقلاب والحرب الأهلية يجب على حماس ألّا تختار الخيار الثاني ويجب أن تمتلك الحكمة والرؤية والصبر والثبات للحفاظ على المشروع الوطني والدم الفلسطيني حتى لو كان الثمن الخروج من السلطة.
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام