كرم الحلو *
ستأثرت مسألة الهوية بحيّز واسع وأساسي من الخطاب السياسي العربي المعاصر، إذ قلّ ان تخلو مطبوعة ثقافية عربية من الإشارة الى الأخطار المحيقة بهويتنا العربية وخصوصيتنا الحضارية والمميزة حتى إن بعض الباحثين رأى ان التلوث الثقافي أشد خطراً من تلوث البيئة الطبيعية على فداحته. ورأى آخر ان العالم العربي يتعرض لشكل جديد من أشكال الاستعمار، هدفه تخريب الهوية العربية وتفتيت الثقافة القومية وإخضاع النفوس من خلال تعطيل فاعلية العقل وتكييف المنطق والقيم وتوجيه الخيال وتنميط الذوق وقولبة السلوك، ما يشكل اختراقاً جدياً للهوية العربية.
في رأينا ان هؤلاء على جانب كبير من الصواب، فالهوية تتحدد بالسمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية المميزة لمجتمع أو شعب أو أمة، وتشمل الفنون والآداب وطرق الحياة وأنماط التفكير كما تشمل التقاليد والأعراف والمعتقدات، على نحو يجعل من هذا المجتمع أو الشعب أو الأمة فضاءً حضارياً خاصاً له استقلاليته وفرادته، وبه يتعين انتماء الفرد أو المواطن.
الهوية بمفهومها هذا باتت مهددة بالفعل في العصر العولمي، وهنا بالذات مكمن اللبس والإشكال، فالتعدد والاختلاف ممكنان داخل الهوية الواحدة، ولا يجوز النظر الى الهوية بوصفها جوهراً أبدياً ساكناً وغير قابل للتحول والتطور، بل باعتبارها فضاءً مفتوحاً متبدلاً متفاعلاً تفاعلاً جدلياً مع هويات مختلفة ومغايرة، بما يعيد تشكيلها تشكيلاً دينامياً متجدداً يجعل من الحديث عن هوية نهائية وهماً من الأوهام. فكيف يصح الكلام على «الاستقلال التاريخي للذات العربية» على ما يذهب مفكر عربي معاصر، بينما نتطلع من حولنا فلا نرى إلا منتجات الحضارة الغربية وإنجازاتها تغطي كل ساحات تعاملنا اليومي وحاجاتنا الانسانية، وتتوغل في صميم واقعنا الى حد لا يبقى معه أي معنى لكل أوهام الفرادة والذاتية والخصوصية؟ وهل من الجائز الاعتقاد بهوية عربية ثابتة وسكونية في ظل الثورة الاعلامية التي لم يعد في منأى عنها أي مكان من العالم، مع تطور تقنيات الإعلام وبلوغها حداً مذهلاً حطم الحدود القومية وبات معه كوكبنا كله وكأنه قرية كبيرة موصول بعضها ببعض عبر الموجات الضوئية والصوتية، وأصبح في وسع الإعلام تكييف أذواق الناس وأفكارهم ومعتقداتهم من خلال برامجه الموجهة ومعلوماته المكثفة بواسطة الكومبيوتر والانترنت، ووفق توجهات شركات الإعلام العابرة للقارات؟ وأي معنى للكلام على هوية عربية مستقلة وفريدة في وقت يستورد فيه العرب 75 في المئة من غذائهم و90 في المئة من علومهم الحديثة وتقنياتها، ما يجعل من حضارتهم حضارة تابعة في كل وجوهها ومظاهرها؟
إن الذين يتشبّثون بالفرادة والتميز ويشيعون الهلع على الهوية، يغفلون الجانب الدينامي والمتحول والتاريخي في الذاتية الحضارية، وكونها في كل لحظة حصيلة تطور وتفاعل وتواصل مع ثقافات الأمم الأخرى وحضاراتهم، ما يجعل فرز سمات ناجزة ونهائية خاصة بالهوية العربية دون سواها، أمراً يكاد يكون مستحيلاً، إذ إن المجتمع العربي نفسه ليس كائناً تاماً مكوّناً نهائياً، على حد تعبير الباحث الاجتماعي حليم بركات في كتابه «المجتمع العربي في القرن العشرين»، بل هو متطور في هويته وثقافته وحتى في مقدساته.
لقد أثبتت الملاحظة التاريخية ان الفواصل والحدود بين الأمم والشعوب لم تكن يوماً قاطعة وحاسمة، وحتى بين الشعوب البدائية وفي أية حقبة من التاريخ، فكيف في زمن العولمة والتواصل الإنساني غير المسبوق؟
ومن هنا، يشكل افتراض هوية عربية عصية على الاختراق والتحول الأساس الايديولوجي لمقولة صراع الحضارات الاستشراقية التي طالما اتُخذت قاعدة لإدانة الحضارة العربية باعتبارها معادية للتقدم والديموقراطية، ومحرّضة على العنف ومولدة للاستبداد، حتى إن باحثاً عربياً معاصراً انساق الى مثل هذه الدعاوى ذاهباً الى ان «الذل والإذلال سمة عامة في ثقافتنا، وإعلان العبودية أمر مقبول في تراثنا» مجارياً في ذلك، من دون ان يدري، الافتراءات الاستعمارية التي أرادت النيل من تاريخنا وحضارتنا.
هذه النظريات الثقافوية بالذات هي في أساس الصراع الحدّي في السياسة اللبنانية، إذ إن التناقض الأساسي والراهن على الساحة اللبنانية، هو في جوهره تناقض في تصورات الهوية اللبنانية وموقع لبنان الحضاري والقومي والتاريخي. فثمة تباين شاسع بين من يعيد لبنان والهوية اللبنانية الى أصول فينيقية مسبغاً ميزات وخصائص على الوجود التاريخي اللبناني وصولاً الى القول بقومية لبنانية مناقضة للقومية العربية أو مختلفة عنها في الأسس والتطلعات والقيم المادية والروحية، وبين من يرى من جهة أخرى أن لبنان هو في صلب قومية عربية شاملة لكل العرب، مشرقاً ومغرباً. قومية مختلف هي الأخرى على أسسها ومقوماتها، أهي إسلامية أم علمانية تطوي تحت عباءتها كل الأديان والمذاهب والطوائف؟ أهي قديمة عميقة الجذور في التاريخ أم حديثة العهد والمفهوم، ناجزة ثابتة على رغم تبدل وتقلب الحقب أم هي قيد التشكل والتكوين عبر السعي والنضال والتصميم؟
وثمة اختلاف كذلك بين من يصر على لبنان في حدوده التاريخية والجغرافية وبين من يرى فيه مكوناً من مكونات سوريا الطبيعية، منادياً بقومية سورية تختلف في امتداداتها وأساسها ومقوماتها عن القومية العربية.
ويمتد الصراع الى كل أسس الهوية ومكوناتها، فيطرح البعض تصوراً علمانياً للهوية اللبنانية يتجاوز المذاهب والطوائف، ويذهب آخرون الى ان هوية لبنان وفرادته، إنما هي قائمة على ميثاق طائفي تعددي واندماج مذاهبه وطوائفه في بوتقة حضارية ميزت الوجود التاريخي للبنان ونموذجه التعايشي الفريد.
ويمتد الصراع الى تصور مستقبل لبنان الاجتماعي والسياسي، فترى فئة ان لبنان يجب ان يكون بلداً لكل أبنائه يتساوون فيه في حقوق العيش والعمل والكرامة، بينما تذهب فئة الى ان وجود لبنان ودوره التاريخي إنما هما قائمان على ليبراليته اللامحدودة، اقتصادياً وثقافياً، مهما تكن النتائج المترتبة على حياة السواد الأعظم من اللبنانيين ومصيره.
إزاء هذه التناقضات العميقة، نرى ان إشكال الهوية العربية أو اللبنانية لا يمكن حسمه إلا في إطار المفهوم الدينامي المتطور والمتحول مع تحولات الزمان والمكان والتاريخ، فلا هوية عربية في معزل عن حركة التطور العولمية على كل الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية في عالم متداخل مترابط بكل الصور والأشكال، ولا هوية لبنانية في معزل عن الأمة العربية وعن العالم. هذا الترابط كان قائماً في كل حقبة من التاريخ، ولكنه الآن أكثر من أي وقت واقعي ومعيوش.
من هذا المنظور نرى انه آن للعرب وللبنانيين أن يخرجوا من هجاس الهوية الضيقة الى أفقها الرحب والكوني، حيث الانتماء الى هوية كونية آخذة في التكوين يبدو انه القدر المستقبلي للإنسانية.
* كاتب لبناني