عصائر مكّة، ملبوسات مكّة، كبدة مكّة، دكّان مكّة... وما شئت من «مكيّات» فإنّك ترى. أين نحن؟ لسنا في الحجاز، ولا في نجد، ولا حتى في الجزيرة العربيّة أصلاً. نحن في مصر. الناس هنا يُحبّون «بيت الله الحرام» ويلهفون لرؤيته. التجّار يعرفون ذلك جيّداً. كل من زار أرض الكنانة، وأمعن النظر حوله، فإنّه حتماً شاهد العناوين المكيّة في كل الاتجاهات. أكثر أهل هذه البلاد، كعموم بلاد المسلمين، على «الفطرة» في إيمانهم. ذلك «التديّن الطقوسي» الكفيل بإخراج المرء من ذنوبه بمجرّد حجّ مكّة. الكل يريد حجز مكانه في الجنّة. سيكون سهلاً على رئيس مصري أن يعقد صلحاً مع الإسرائيليين، ثم يمرّ الأمر، طالما أنّه «الرئيس المؤمن». كان أنور السادات يصلّي الفرض ويصوم الشهر ويحجّ البيت... «أي وربّنا»!
سيكون سهلاً على عبد الفتاح السيسي، اليوم، أن يُجيّش المصريين للدفاع عن آل سعود بحجّة الدفاع عن مكّة، أو قل «بلاد الحرمين». دعك من «النُخب» والحكّام الذين يعرفون حقيقة الأمر. حقيقة «الفلوس إللي زيّ الرز» عند الخليجيين. لكن الناس، البسطاء، وهم الكثرة، سيصبح آل سعود في لاوعيهم بمكانة مكّة نفسها. الحرمة ذاتها. في أحسن الأحوال هم «حرّاس الدين»... ألم تختصر تلك العائلة شبه الجزيرة باسمها، ذات يوم، فصارت السعوديّة؟
يشّن آل سعود حرباً مدمّرة على اليمن، ويخرج ملكهم سلمان بن عبد العزيز ويدعو المسلمين، لـ»الدفاع عن الحرمين وحماية الدين». هي شمّاعة الدين مرّة أخرى، ولافتتها الآن الكعبة: مكّة في خطر، الإسلام مُهدد، الدين سينهار، باب من أبواب الجنّة سيُقفل، نافذة النجاة ستُغلق... يصرخ آل سعود وفي ظنهم أن ملايين المسلمين سيستجيبون، وملايين الدهماء، دوماً، عند حُسن ظن آل سعود. سيصدّقون ويَخرُجون ملبّين. دائماً ثمّة من سيصدّق، حتى ولو كان العدو، هذه المرّة، هو شعب اليمن الذي ما أحبّ مكّة وكعبتها، أحد مثله، إلى حد أن «الركن اليماني» هو أحد أركان الكعبة الأربعة... و»أشرفها».
الحال في باكستان
لا تختلف كثيراً عمّا هي
عليه في مصر

الحال في باكستان لا يختلف كثيراً عمّا هو عليه في مصر. صحيح أن البرلمان الباكستاني نأى ببلاده عن التورّط في حرب بريّة على اليمن. لكنه استثنى من ذلك مسألة «الدفاع عن الحرمين» في حال الخطر. الناس هناك يُحبّون مكّة - أرض الخلاص. الدين هو المطيّة المثلى عندما يُصبح طقوسيّاً وقد أُفرغ من كل معنى. السذّج هم ذاتهم في كل مكان. وسيسهل خداع شعوب بجعل قدسيّة مكّة، والحجاز تالياً، من قدسية عائلة جاءت من قلب نجد، ولم «تفتح» مكة والحجاز إلا بفعل السيف والدم. حصل ذلك قبل زهاء قرن من الزمن.
بعد قرار البرلمان الباكستاني، الأخير، وامتعاض آل سعود منه، طار على عجل إلى العاصمة إسلام آباد وزير «الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد» السعودي صالح بن عبد العزيز آل شيخ. يعني، بتوصيف أدق، وزير المؤسسة الدينية الرسميّة، اي الوهابية (وهو من سلالة محمد بن عبد الوهاب). التقى هناك بشخصيات دينية باكستانية متشددة، من الذين لطالما أغدق آل سعود عليهم المال والإيديولوجيا، في خطوة عدّها بعض الإعلام الباكستاني أن «السعودية تريد معاودة اللعب بأوراق التنظيمات المتشددة سياسياً». يكفي هنا التذكير بأنه ذات يوم عندما أراد التكفيري الباكستاني الشهير حافظ محمد سعيد، جذب الناس إلى منظمته التكفيريّة - الوهابيّة، رأى أن يطلق عليها اسم «عسكر طيبة» (لشكر طيبة). وكم قتلت وفجرت ونسفت وذبحت... وما طيبة إلا اسم من الأسماء التاريخية للمدينة المنورة في الحجاز.
سيجد نداء آل سعود صداه بعيداً، في أفريقيا وجاوا والفيليبين وأبعد، حتى عند المعدومين ومن زهدت بهم الدنيا. حتى الحكومة الأفغانيّة، التي أضنى الموت والفقر بلادها، ستُعلن أخيراً أن «الدفاع عن الحرمين الشريفين وظيفة كل مسلم، سنضع كل إمكانياتنا للدفاع عنهما في حال تعرضهما لتهديد». أما في السودان، فسيخرج وزير دفاع النظام الحاكم ليعلن أن بلاده «لن تسكت عن التهديد المحدق بالسعودية ورمزيتها». اللعب على «رمزيتها» إذا. هنا كل الحكاية. في السودان ثمّة عجوز بائس يلبس الزي السعودي على رأسه، منذ نحو 50 عاماً ولا يخلعه، أملاً بأن يعطف عليه السفير السعودي بالخرطوم ويرسله إلى مكّة للحج. يدرك هذا العجوز، الفقير، أنه لن يستطيع إلى الحج سبيلاً إلا بمنحة من آل سعود. اسمه بركة أحمد، عمره 95 عاماً، يعيش في حي مايو جنوب العاصمة السودانيّة، وتجده يقفز من وسيلة إعلامية إلى أخرى مستجدياً الحج. بركة ليس إلا نموذجاً لمسلم تقليدي «يعيش ويموت على حلم الذهاب إلى مكّة»... وقس على ذلك، باختلافات نسبيّة، في سائر أقطار العالم الإسلامي. هكذا، تستحيل فريضة الحج طريقة لإذلال النفس عند أعتاب عائلة تسلّطت ذات يوم على الحرمين.

خديعة عبد العزيز للحجازيين

كيف أصبح سلطان نجد، عبد العزيز آل سعود، في عشرينيات القرن الماضي، ملكاً على الحجاز التي كان يحكمها الأشراف قبله؟
مكّة والمدينة المنورة والطائف وجدة، كلها ضمن الحجاز. ذلك الاقليم الذي كان احتلاله عند ابن سعود، الجد الأكبر، ومعه محمد بن عبد الوهاب، قبل نحو 250 عاماً، بمثابة الحلم الأزلي. تحقق الحلم، وتذكر كتب التاريخ، المكتوبة من حلفاء آل سعود ومن نالوا صرر دنانيرهم، المجازر التي وقعت في الطائف، على يد الوهابيين، ومن ثم محاصرة مكّة وتهديد أهلها. ليس أمين الريحاني، صاحب ملوك العرب، وتاريخ نجد الحديث، سوى واحد من الذين كتبوا وأرّخوا، فضلاً عمّا ورد في «مجلة المنار» للشيخ محمد رشيد رضا (مجلد 26 صفحة 707). حتى التاريخ الذي كُتب بمعيّة وموافقة ومدح هذه العائلة، ومنه ما ذكره حافظ وهبة (مستشار عبد العزيز وكاتب سيرته)، فإن الباحث رغم ذلك يجد فيه ما يفضح تلك الجرائم التاريخية.
رحل الشريف حسين (وهو ليس شيعياً) عن مكة وجدة، ثم انهزم نجله الشريف علي أمام جحافل «إخوان من أطاع الله» (داعش بنسختها القديمة). لم يخجل عبد العزيز من أن يصف دخوله مكّة بـ»الفتح». والفتح، في الموروث الإسلامي، يحصل عندما تدخل بلاد الكفّار. حصل هذا في عشرينيات القرن الماضي. هكذا، تم تكفير أشراف مكة والحجاز وسائر الناس في الجزيرة العربية، وحتى خارجها، بما في ذلك مصر (قصة المحمل المصري مثلاً) وهدرت الدماء. آل سعود ووهابيتهم هم فقط أهل الإسلام، اما البقية فلا. من السنّة الأشاعرة الى الصوفية إلى الإباضية... فضلاً عن الشيعة، الكل كفار! لا أزهر مصر ولا زيتونة تونس ولا تكايا الشام، الكل يسقط، هنا امام الوهابية!
لم يكن مِن أعيان الحجاز، آنذاك، إلا أن طالبوا عبد العزيز بأن «يكون الحجاز للحجازيين». بايعوه، مكرهين، والسيف فوق رؤوسهم، لكنهم أصروا على التمسك ببلادهم وحرمتها. الحَرَمان (في مكة والمدينة) يداران من قبل هيئة مؤلفة من ممثلي العالم الإسلامي. كان هذا مطلبهم. وافق عبد العزيز شكلاً، لكنها الخديعة، والدليل نظرة إلى الحجاز اليوم، حيث لا وجود لشعار «الحجاز للحجازيين». صار الحجاز للنجديين، بل لآل سعود حصراً... وإنها «ولاية المتغلِّب» بأجلى صورها.
حتى «صاحب المنار» (محمد رشيد رضا) مع ما يمثله من وزن إسلامي، آنذاك، بدا متفاجئاً بما حصل، كان في مصر عندما قال: «وكنا كالجمهور نتوقع من رويته (عبد العزيز) تأخير القطع في شأن حكومة الحجاز إلى أن ينعقد المؤتمر الإسلامي». ومما جاء في البيعة، الآتية مع رائحة الدماء، من الحجازيين، الآتي: «نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود على أن تكون ملكاً على الحجاز، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عليه الصحابة رضوان الله عليهم، والسلف الصالح والأئمة الأربعة رحمهم الله، وأن يكون الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين يقومون بإدارة شؤونه». وقد ورد هذا النص في مجلة «أم القرى» التابعة لآل سعود (العدد 55 بتاريخ 15 يناير 1926).
لا الحجاز عاد للحجازيين، ولا المذاهب الثلاثة (الشافعية والمالكية والحنفية) كان لها الحظ في الاستمرار كما كانت. فقط المذهب الحنبلي هو الحاكم. مذهب الدولة السعودية الرسمي بنسخته المعدة بحسب افكار ابن تيمية وشيخ الوهابية. ثم يخرج الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، ممثل الوهابية الرسمي، بعد سنوات قليلة ليغلق المدارس الحنفية (المدرسة النظامية) لأنها امتنعت عن تدريس كتاب «التوحيد» الشهير، فخر مؤلفات محمد بن عبد الوهاب. حصل ذلك في آب عام 1931.
بعد احتلال مكة، وامتلائها بالوهابيين المتأهبين، الذين صعب على عبد العزيز نفسه، في مرحلة معينة، السيطرة عليهم... وقعت «حادثة المحمل المصري». وفد من مصر يأتي، سنوياً، منذ قرون، يحمل معه كسوة الكعبة الجديدة. عام 1925، في موسم الحج الأول بعد احتلال المدينة المقدسة، يصرخ بعض هؤلاء الوهابيين على وفد المحمل القادم: «الصنم الصنم». هجموا على المصريين وأطلقوا النار عليهم وحطموا المحمل. سقط قتلى وجرحى. قطعت مصر يومها، لسنوات، علاقتها بالحكام الجدد للحجاز، وامتنعت عن إرسال الكسوة التي كانوا ينسجونها. أما ما فعله الحلف السعودي - الوهابي بالآثار الإسلامية، من تدمير لمنازل الصحابة وآل البيت، وهدم للقبور والقباب، بذريعة البدعة والشرك، فحدّث ولا حرج وتلك حكاية أخرى.
سكت العالم الإسلامي على احتلال الحجاز، وعلى التحكم بالحرمين في الإدارة والمناسك، وعلى سفك الدماء والتدمير والتخريب، ومرّ نحو قرن من الزمن والمؤتمر الإسلامي - الدولي المزعوم لإدارة شؤون المقدسات لم يُعقد. دول وممالك إسلامية اعترضت آنذاك، لكن بريطانيا كانت أقوى، ومن أجل عيون ابن سعود، المطيع لها، كانت بريطانيا مستعدة لجعل كل العيون تدمع... وهذا ما كان.