عمر كوش *
يمكن القول إن الوضع في لبنان بلغ مرحلة من الانقسام والغليان تدعو إلى الخوف الحقيقي على البلد وناسه، ذلك أن الأزمة بلغت مرحلة تنذر بما هو خطير على السلم الأهلي والتعايش اللبناني، إذ على الرغم من محاولات تطويق الأمور ومنعها من دخول مرحلة الصدام الدموي و«حرب الجميع ضد الجميع»، فإن لا أحد يستطيع معرفة ما ستؤول إليه الأمور فيما لو استمرت التعقيدات الأساسية في التفاقم والحفر في عمق النسيج اللبناني، الاجتماعي، فضلاً عن السياسي.
ويأتي الخوف من إمكانية تكرار الاحتكاكات بين الشارع والشارع المضاد، على غرار ما سبق أن حصل في بعض مناطق بيروت وسواها، ومن توسعها المرتبط بارتفاع مستوى الاحتقان المؤرق، الذي يغذيه تشنج الخطاب السياسي للأطراف المنقسمة، والحرب الإعلامية غير المسبوقة، والعنيفة التراشق، التي تُؤبلس الطرف الآخر وتفتح عليه «جبهة بلا رحمة».
لقد لجأ الخطاب السياسي للأطراف اللبنانية المنقسمة إلى لغة الحقن الطائفي، ولم يأبه منتجوه للدرجة التي وصل إليها هذا الحقن، ولا مدى تأثيره في الأنصار والمؤيدين، الأمر الذي جعل التشنجات الأهلية والاستقطابات الطائفية والمذهبية تطغى على الأصوات والمطالب السياسية. وكأن هنالك من يريد أن يدفع الأمور دائرة المحظور، كي تفعل الفتنة فعلها من جديد، بالتحايث مع انقطاع الحوارات ومراوحة المساعي والوساطات، المحلية والعربية، على الرغم من الوتيرة العالية للاتصالات والوفود المختلفة التي تزور العاصمة اللبنانية.
ويبدو أن المسؤولين العرب الذين توافدوا على العاصمة اللبنانية لم يحملوا سوى الرسائل والتحذيرات، وربما الانحياز لأحد الطرفين، مقابل بذل القليل من المحاولات للعثور على صيغة مخرج ما. وفي هذا السياق ما زالت المبادرة التي عرضها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى على المعنيين في الفريقين المتصارعين في لبنان تراوح مكانها، وبين أخذ ورد الأطراف العربية.
ويبدو أن الأوضاع الملتهبة في لبنان، ستتجه نحو المزيد من الاحتقان والالتهاب، حيث لم يدرك منتجو الخطاب السياسي اللبناني أن المطلوب هو فتح فجوة في جدار الأزمة، وليس الانجرار نحو المزيد من الانسداد، وخاصة أن لبنان في حال سباق مع الزمن لتجنب أجواء المواجهة الملتهبة، وبحاجة إلى إنعاش فرص الانفراج على الرغم من تضاؤلها واقتراب نفاد الزيت في قنديلها.
إن جنوح الخطاب السياسي نحو حالة غير مسبوقة من التأزم، جعله يستمد مفردات لغته السياسية من قاموس التشنج والتصعيد والتهويل والتخوين على حساب تراجع لغة التفاهم والوفاق، الأمر الذي أدى إلى اضمحلال مساحة التهدئة وتضايق خيوط الحوار، وذلك بعدما وصل الانقسام إلى ذروة جديدة، وبات خطر «انكسار الشراكة» يتهدد المجتمع. وكأن ارتدادات زلزال 12 تموز الماضي قد بدأت تفعل فعلها في الإجهاز على ما تبقى في لبنان، عبر الأخذ به نحو الاقتتال والتصادم الداخليين، أي نحو الانشطار والتمزق والبعثرة، ونحو تنازع السيطرة على المناطق والأحياء والمواقع، ونحو الاحتكام إلى الغرائز الطائفية والمذهبية.
إن انفلات الأمور، وهو أمر لا نتمناه ولا يتمناه أي إنسان غيور على لبنان وناسه، سيفضي إلى مخاطر كثيرة. مخاطر قد تعصف بما يسمى «الموالاة» و«المعارضة»، أو «قوى 14 آذار» وقوى «8 آذار»، بالحكومة والدولة والمقاومة وبالجموع الصامتة، أي لن يسلم أحد من الكارثة في حال وقوعها. وبالتالي فإن القوى السياسية التي دخلت لعبة كسر العظم عليها أن تعي تماماً حجم المشكلة وامتداداتها أياً كان المحور الخارجي الذي تنتصر له.
قد لا يختصر الوضع في لبنان في زيادة ضعف الدولة أو إسقاط الحكومة، لأنه سيجرّ معه إلى الإنهاك والبعثرة جميع القوى المنقسمة، ذلك أن الاعتماد على الشارع والشارع المضاد، وضخ المزيد من التشوهات المذهبية والطائفية والمناطقية لن يؤدي إلا إلى جعل لبنان ساحة مفتوحة للصراع والاقتتال من جديد، وفي ذاكرتنا مأساة الحرب الأهلية الأخيرة، وأمام أعيننا اليوم المثل العراقي، واضحاً ومأساوياً.
وعلى الرغم من كل شيء، ما زالت أمام القوى اللبنانية فرصة للخروج من الأزمة، يمكن الاستفادة منها، عبر وضعها في إطارها الصحيح، وليس في إطار الحصول على المكاسب الفئوية وتسجيل النقاط وفق منطق «المنتصر» و«المهزوم»، أي يجب وضعها في إطار مصالحة وطنية عامة، تتجاوز المناصب الوزارية والرئاسية، وتفضي إلى مؤتمر وطني، يعالج برويّة وهدوء كل المشكلات التي تتعلق بالدولة اللبنانية ومؤسساتها المختلفة، ولا يستثني البحث عن مخارج لمشكلات اللبنانيين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويحدد بوضوح وشفافية إمكانات لبنان ودوره ومستقبله.
لا شك في أن البحث عن مخارج وحلحلة المشاكل القائمة تستلزم جهداً ووقتاً، لكن الأوضاع في لبنان تحتاج إلى حراك سريع، يتوّج بعقد مؤتمر وطني لجميع القوى الحيّة فيه، مؤتمر يضع مصلحة لبنان وناسه فوق كل الاعتبارات والرهانات والاستراتيجيات، ويجعل الاتفاق السياسي ضرورة لإنجاز وفاق وطني، يرتقي إلى مصاف ما فوق الطائفي والمذهبي، وقادر على إخراج البلد من حالة الأزمة، ولو على مراحل.
* كاتب سوري