خليل أحمد خليل *
يُعيدنا العالِم العربي، جورج قرم، إلى استئناف التفكير النَّقدي لجغرافيّات التخلّف الاجتماعي ــ السياسي العربي، ما دام التاريخ هو قراءة الجغراسيا بالمقلوب. ويدعونا في كتابه «انفجار المشرق العربي، من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق» ــــ وحرب لبنان 2006 (دار الفارابي، بيروت، 2006) ــ إلى البحث عن أسباب صمود التخلف في هذه المنطقة العربية، دون سواها، وإلى التأمل في ما نسمّيه، بطريقتنا، صدمة الوصايات، أو الانتدابات والاستعمارات والاحتلالات والاحترابات المحلية الخ، هذه الصدمة المتواصلة التي جعلت المشرق العربي، منذ حرب السويس ولتاريخه، موطئ صراعات تفجِّره، وجعلت الغرب، بكل استيهاماته وتقنيّاته مفجِّراً لهذه الأمة العربية الكبرى التي لمّا تتحقق في دولة أو أمبراطورية كسواها. وبلا مواربة يُحيلنا العالِم اللبناني العربي، نَسَباً والتزاماً، إلى محدِّدين: «إسرائيل» والنفط، ويضعنا أمام المشهد التاريخي، بكل مكوّناته الراهنة، التي جعلت المشرقَ العربي يتخلّف عن ركب الحضارة والإسهام في عولمة الأرض، وقلبَتْ فيه معادلات النهضة إلى سقطة، كان من أبرز معالمها استمرار القضيّة الفلسطينية بلا حل عربي، ولا دولي، ونقل عدوى الاحتلال الإسرائيلي إلى أرض لبنان حيث تجذّر الشَّرْخ اللبناني واجتذب إليه وصايات الجيران وانتهاكات المُقتدرين مالياً وعسكرياً لفضائه الحيوي والمعرفي، قبل انتهاك «إسرائيل» أجواءه وبحره وبرّه. الأمر الذي جعل لبنان هذا يستفيق على احتلال العراق وتكرار احتلالات غزّة أو الضفّة، بدفاعٍ غربي مزعوم عن «النَّفس الإسرائيلية»، هذه النَّفس «اللاسامية» القلِقة التي مكَّنتْ قوى الغرب المنتجة لها، من استباحة المجال العربي ومن ممارسة «لاساميّتها» على العرب، بالمقلوب. والحال، لا تخفى الرسالة القُرميّة التي ينطوي عليها كتاب «انفجار المشرق العربي»، وهي أن لبنان، وربما فلسطين والعراق أيضاً، صار في ثقافة مفجّريه، «مادة استيهامات إعلاميَّة» يُرتجى من ورائها النَّيْل من سوريا، الممانعة لإسرائيل وللانحياز الأميركي من جهة، والنَّيْل من إيران عبر «ملفّها النووي» المُصطنع من جهة ثانية. وعبر هذا وذاك استدراج منطقة بكاملها من أفغانستان حتى موريتانيا، إلى دورات عنفٍ تكون فيها «إسرائيل» لاعباً أكبر، لتمكين أميركا من الاستيلاء على النفط كاملاً.
ليس سهلاً، من هذا المنظار، استكشاف نصف قرن من تاريخ هذه العروبة المتفجِّرة، من دون التوقف عند الصاعق الإسرائيلي، الذي استدعى بدوره الصاعق الفلسطيني المتفجِّر في الفخ الأردني، ثم الفخ اللبناني، وحالياً الفخّ الغزَّاوي. ولكن لا معنى لنقد سياسي علمي لهذا التاريخ الطازج، المتواصل الحدوث، من دون اللجوء إلى معيارية إبستمولوجية وربما سوسيولوجيّة، حاول جورج قرم استخدامها على مدى كتابه الضخم بالفرنسية أو بالعربية (نحو 863 صفحة). وبقوَّة هذه المعيارية العلمية، التي تُعادل التزاماً في المستوى السياسي، تمكَّن البروفسور قرم من ربط أزمات ووصايات وانفجارات هذه المنطقة بعضها ببعض، بعدما تكاثر التفكيك فيها، وبات التحليل ــ الواجب علمياً على كل عالِم دقيق ــ جزئياً وحتى حَدَثياً وغالباً يومياً، كما هي حال وسائل الإعلام. فتجاسر العلاَّمة قُرُم على القيام بتحليل ترابطي، إيقاعي أو تضايفي، جعلنا نرى بوضوح كيف تتقاطع الوصايات وصدماتها في هذه المنطقة، القادرة على الخروج، نظرياً، من خنَّاقة التخلّف، والممنوعة بالتفجير المتمادي من تحقيق هذا الخروج، والمحكوم بدوره بلعبة تاريخ سياسي تخونُه الجغرافيا البشرية والاقتصادية غالباً، حتى في مجالات البلدان العربية النفطية.
الجديدُ في هذه المساهمة العلمية هو أن العلاَّمة جورج قرم يصدُمنا منذ بداية بحثه هذا بما يدعوه: ديناميّة الفشل، وبما يرتجيه من وراء ذلك، أعني استكشاف أسباب فشل النهضة العربية (1825-1956) «وسير المجتمعات العربية نحو مزيد من الانحطاط والوهن والتفرقة أمام التحديات الخارجية» (انفجار، ص 11). فهو يبيّن إذاً أن ما يميِّز دينامية الفشل هذه، هو «هذا التشابك بين الداخل والخارج» فضلاً عن عوامل اقتصادية عملاقة (تأثير النفط) وتغييب مشكلاتنا الأساسية (احتلال الأراضي العربية وتعرّض العرب الدائم لهجمات صهيونية استيطانية) لنقع «أسرى الأدبيّات الهزيلة لحوار الحضارات والأديان». طبعاً في خاتمة البحث المطوَّل والمفصَّل يخلص إلى استنتاج علمي نقدي صارم: مالنا ومال الحوار مع الغرب؟ لماذا لا نتحاور نحن العرب ونواجه معاً صدمة الوصايات والانفجارات التي تطولنا جميعاً؟
غياب التحاور والتشاور بين عرب النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من وجود جامعة لدولهم، يُعزى إلى «دينامية الإخفاق السياسي»، وإلى الإيديولوجيات الدينية المُستعملة بلا هوادة للتغطية على «مسالك الفشل المُهيمنة». قبل أن يستوي ملكاً، أعلن الأمير عبد الله ولي العهد السعودي: «لقد فشلنا، والله لقد فشلنا» وكرَّرها مراراً. لكنْ ما هي العِبرة المُستفادة من هذا الفشل السياسي المُعْلَن؟
السؤال يُعيدنا إلى فلسفة النهضة العربية: ما معنى العرب ودولهم بلا عروبة جامعة؟ إن العروبة ــ كهوية إنسانية ــ هي «الجامع المشترك الأكثر وضوحاً بين مجتمعات المنطقة» (م. ن.، ص 130). ولئن كان قُُصَيّ هو «جامع العرب» قبل الإسلام، وكان النبي العربي محمد (ص) هو جامع العرب ــ وغير العرب ــ على الإسلام والتسامح الديني، فمن سيجمع العربَ المعاصرين على أرض تاريخهم غيرُ عروبتهم؟ إن كل مجتمعات المشرق العربي مطبوعة بطابع الثقافة العربية، أي إن ما برز في المشاهدة التاريخية الراهنة هو شخصيّة متميّزة بالهوية العربية. ولكنْ «ما يفسِّر عجز العرب عن بناء مؤسسات سياسية ثابتة وعن إقامة دولة قومية بحدود جغرافية واضحة، في الماضي كما في الزَّمن الراهن هو استمرار البداوة والبنى القَبَليَّة بكل حيويّتها» (م. ن.، ص 131). وعليه، فإن غياب العرب عن مسرح التاريخ السياسي طوال عشرة قرون ونيّف يقدِّم تفسيراً أولياً لصعوبة إعادة تكيّفهم مع العالم المعاصر أو عودتهم إليه، بعد تحرّرهم من الوصايات الأجنبية التي صَدَمت وعيهم الجماعي العربي بالهوية، محاولة بسيطرتها وتفجيراتها خنق هذا الوعي بالتحديد. تاريخياً قبِل العرب، ثم المسلمون العرب، بالتعدّدية البشرية والدينية، ولكنَّهم لم يحظوا من معاصريهم باعتراف ندِّي بهم وبثقافتهم وديانتهم وسياستهم. فما معنى اعتراف العرب بآخرين لا يعترفون بهم؟ وما جدوى التحاور مع آخر، تسامحه ولا يسامحك؟ نرى أن هذين السببين يجعلان العرب المعاصرين يدفعون دماً وأرضاً، ثمناً لتسامحهم، منذ طردهم من غرناطة (1492) حتى 2006، ويقدّمون جغرافيتهم موطئ صراع وصدام لآخرين بلا هوية (كما هي حال الإسرائيليين)، ولآخرين تقوم هويتهم على إلغاء هوية الآخر، العربي بالمناسبة! أما المعيار القديم المستديم فهو المعيار التاريخي للأقوام حيث تكون اللغة هي حدود الأرض القومية. وعليه فإن معيار العروبة كهوية هو اللغة العربية وليس الدين المتفرّع عن ثقافات العرب، العاربين والمستعربين لساناً. وفي هذا السياق جاء في النصف الثاني من القرن المنصرم «استبدال سيطرة أجنبية متحجّرة ومتخلفة (الوصاية العثمانية) بسيطرة أجنبية أخرى أوروبية ــ مسيحية» (حضارة التقدّم التقني العلمي) بمثابة صاعق مُفجِّر لنخب المجتمعات العربية وسكّانها، فجعلهم بلا تمايز يواجهون «سلسلة من الصدمات الثقافية والصدمات المضادة التي كان يصعب التحكم بها...» (م. ن.، ص 141). حالياً، تندرج إشكالية الهوية العربية هذه في: «إعادة امتلاك المجتمع العربي كامل تاريخه (أي كامل جغرافيته أيضاً) بعد قرون طويلة من طمس شخصيّته الثقافية، وفي مواجهة الحداثة التي تنطوي بالنسبة إلى العرب، على صعوبات كبيرة» (م. ن.، صص 159-160). ولئن كان لكل شعب حداثته في عصره، فإن للعرب حداثاتهم على مدى تعاقب عصورهم أو أجيالهم. فالحداثة مُجايلة، لا مجاملة. وبهذا المعنى لم يخرج العرب في مكانهم عن حداثة عصرهم، بل أُخرجوا منه مراراً وتكراراً، بالسيطرة الاستعمارية تارة، وبحروب المستعمرين تاراتٍ. وكلما حاولوا، في هذا القطر العربي أو ذاك استئناف حداثتهم الفطرية الطبيعية، يأتيهم الصدُّ التفجيري من قاعدة أو منصة التفجير الغربي الدائمة ــ نعني «إسرائيل»، التي لا يجوز الاعتراف بها، ما دامت هي وغربُها لا يعترفان بنا كما نحن ــ، أو من منّصات التفجير العالمي المنتشرة ضد العرب شرقاً وغرباً.
* كاتب وناقد لبناني