أمين محمد حطيط *
السيادة للأمة، والشعب يختار من يمارسها باسمه، هذا هو المبدأ الذي لا نزاع فيه، وهي سيادة غير قابلة للتنازل لأن التنازل لا يصح إلا من مالك الشيء، وبما ان الأمة هي التي تملك السيادة، وان الأمة هي من مضى ومن حضر، ومن سيأتي، لذلك لا يكون للحاضر منها وهو الشعب القائم اليوم ان يتنازل وإن أجمع بنفسه أو عبر ممثليه... فليس لحاكم اليوم ان يتنكر لتاريخ صنعه الأجداد، وليس له ان يصادر المستقبل الذي سيكون ملكاً للأحفاد، كما أنه لا يستطيع ان يفرّط بحقوق أفراد الشعب الحاضر لأن هؤلاء اختاروه لصيانة الحقوق لا لإهدارها... وإن ألجأه الظرف الى ضرورة العطاء فعليه ان يفعل في إطار التبادل من دون التنازل أي المعاملة بالمثل. فلا يعطي إلا بمقدار ما يطمح إلى ان يأخذ ويكون العدل في التبادل هذا قائماً الى أبعد حد ممكن... والسلطة الممارسة للسيادة تظهر في ميدان الواقع بوضع من ثلاثة: متنازلة، أو متهاونة، أو محافظة، أو متجاوزة تعتدي على سيادة الآخرين، ويكون التهاون أو التنازل متجلياً في وجه أو أكثر من وجوه السيادة: في القدرة على اتخاذ القرار (الوجه الإيجابي) أو القدرة على منع تدخل الآخرين في شؤونها (الوجه السلبي)... فإن فقدت السلطة هذه القدرة أو تلك اعتبرت عاجزةً بما يفرض تغييرها والإتيان بمن يحفظ السيادة.
وقد وضع لبنان منذ عام 2005 في اختبار صعب في موضوع السيادة أصلاً وممارسةً... حيث قيل بثورة سمّيت «ثورة الأرز» انطلقت لتستعيد السيادة للبنان من سلطة اتهمت بالتهاون فيها ولترسي فيه القرار المستقل المستند الى إرادة شعبية عامة جامعة، وأقيمت من أجل ذلك حكومة ادّعت لنفسها صفة حكومة الاستقلال، وجاءت الممارسة بما يثير الشك والشبهة حول السلوك السيادي لهذه الحكومة:
ــ ففي ميدان اتخاذ القرار، بدا واضحاً ان هذه الحكومة لا تتخذ قرارها بنفسها، بل أوجدت نفسها في موقع الملتزم بقرار يتخذه سواها... القرار للأميركي... ففي السياسة العامة هو الذي يقرر، وفي تحديد السلطات ومن يمثل لبنان الأميركي وحده يقرر.. وفي تعيين الموظفين الكبار الأميركي هو الذي يفرض... وتأتي سلسلة القرارات التي لا نقاش فيها: عزل رئيس الجمهورية أو محاصرته، ترفيع رئيس الحكومة الى رتبة رئيس الدولة بعدما كان في الرتبة الثالثة فيها، نزع سلاح المقاومة، تقييد القضاء اللبناني ليكون مساعداً للقضاء الدولي... إسقاط حق المقاومة بتحرير الأرض حتى ومنع التلفّظ باسمها، وضع القوى الأجنبية في موضع الرقيب والقابض على معابر البلاد وحدودها... تحديد مستوى العلاقات مع سوريا من الميدان الى الحدود الى العلاقات الانسانية والدبلوماسية.... حكومة يصنع لها القرار ولا همّ إن وافق الدستور أو خالفه... هي حكومة عاجزة عن حفظ السيادة...
ــ فهل تصدت وحاولت منع التدخل لمنع التدخل؟، وهو الوجه الثاني للسيادة، للأسف لا. لأن الحكومة التي ترى سندها في أميركا لا تستطيع ان تناقش مصدر قوتها، فتنصاع حتى لو أدى ذلك الى شقاق داخلي أو خرق دستوري، أو أعباء مالية... فإذا كان لا يهم أميركا ألا يكون في الحكومة الممثلون الحقيقيون للمسيحيين في لبنان (التيار الوطني الحر) ولا يهمها ان يخرج من الحكومة ممثلو الشيعة كلهم، ولا يهمها ان يثقل المكلف اللبناني بمبلغ يراوح بين 7 و10 مليار دولار أميركي تكلفة المحكمة الدولية في بضع سنين، ولا يهمها ان تسوء علاقات لبنان مع جارته العربية الوحيدة (سوريا) التي لو أرادت وأغلقت حدودها لاختنق لبنان، ولا يهمها ان تتعطل مؤسسات الدولة، ويقضي الناس أيامهم ولياليهم في العراء يطالبون بالحرية والسيادة الحقيقية.... فهل هذه الأمور لا تعني الحكومة لتمنع السير فيها؟ إنها لم تفعل بل تركت الأمر يتفاعل الى الحد الذي رأى الشعب سيادته انتُهكت فخرج على حكومته رافضاً سلوكها نازعاً ثقته منها... فباتت حكومة العجز السيادي، المفتقرة الى دعم الشعب...
ــ ولأن مصلحة أميركا هي ان يكون في لبنان سلطة تسمع، وتطيع، وتوفر الظرف لنجاح سياستها في الشرق الأوسط، هذه السياسة التي بات فشلها واضحاً، وكرس وقوعه تباعاً من حرب تموز الى استنتاجات لجنة بيكر ــ هاملتون....، فقد سارعت إلى التعويض عن النقص في التأييد الشعبي لهذه الحكومة بدعم يومي يصدر من واشنطن، وبزيارات مبرمجة الى مقر السلطة التي أسقطها شعبها باعتصامه في ساحات تحيط بها.... وقد نسيت أو تناست أميركا ان في هذا الفعل مسّاً بالسيادة من باب آخر وهو المصدرية، فالحكومة تنبثق من إرادة الشعب فتكون وطنية، أما إذا ثبّتها الأجنبي في موقعها خلافاً لإرادة الشعب فتكون سلطة أجنبية، فالقوة الحقيقية للسلطة الوطنية ــ أي سلطة ــ تستمد من الشعب الذي أقامها عليه، وتستمر باستمرار قبول الشعب بها، أما عندما يرفض الشعب حاكمه، فلا يكون للحكم بقاء... أوليس في التاريخ الاميركي أو الفرنسي عِبر يُستفاد منها؟
وعلى هذا نقول إن استمرار حكومة السنيورة في مكانها بات مستحيلاً، وقد خسرت شعبها بعدما تنكّرت لتاريخه وهددت مستقبله، وفرّطت بسيادته، هي لن تستمر بعدما أصبحت قوتها مستندة الى دعم خارجي، وتأييد أقلية شعبية يطمع بعضها بمال موعود أو مغدق، وإذا كانت أقلية الداخل لا تقوى على أكثريته، فإن الدعم الخارجي ومهما كان شأنه يبقى هو الآخر ظرفياً في الأمد، وعاجزاً في المضمون، هذا في المبدأ.. وكيف تكون الحال إذا كان مصدر الدعم الخارجي نفسه عرضة لإعصار التغيير.. فالمحافظون الجدد في أميركا الراعون «لثورة الأرز» يتساقطون.. من رامسفيلد، الى بولتون، الى جون أبي زيد، والأغلبية الديموقراطية في الكونغرس الاميركي قادمة لتقول لبوش: إن سياستك في الشرق الأوسط خاطئة... وفي المقابل نرى أكثرية شعبية لبنانية قائمة كجسم متماسك أُسقطت منه نوازع الطائفية والمناطقية والطبقية، وظهر في ساحات الاعتصام يعيش الوحدة الوطنية الحقيقية، ويقول بصوت واحد لا نريد هذه الحكومة التابعة.... ولتأت حكومة وطنية...
ــ إن هذه الحكومة تستفيد اليوم من دعم خارجي ظرفي: لأن الاميركي الممسك بالقرار حالياً، يعرف ان وضعاً ينشئه مخالفاً للدستور، لا يمكن ان يستمر في بلد كلبنان يتميز بدرجة عالية من الوعي والفهم السياسي، لذلك رهانه يقوم على ظرفية العمل المنفذ لا على ديمومته، ما يعني ان تمسّكه بالأداة المحلية التي يدعمها مشروط بقدرة هذه الفئة على توفير المصالح... وقد يُقلب دور هذه الحكومة باليد الاميركية من رمح وسيف تهدد به الى درع تتقي به الصدمات، وبات هذا الدور اليوم أداة إشغال ظرفي إلى أن يلزمها في مكان آخر، لذلك يقول بوش انه فخور بالسنيورة، لتشجيعه على الصمود لأطول وقت ممكن، ولكن إذا لمس الاميركي ان الأداة باتت من غير فعالية أو صلاحية لتحقيق المصالح فإنه سيرميها كما يخلع العامل القفازات التي استعملها لمعالجة أمر ما خشي منه على يديه.. تعرف اميركا ان هذه الحكومة باتت مشلولة عاجزة عن فعل أي شيء فلا مرسوم تنشئه ويُوقّع، ولا مشروع قانون تصوغه فيُقر، ولا أمر توجّهه فيُطاع، والآتي بالنسبة إليها أعظم.. عندما ترتفع درجات الرفض الشعبي المعارض لها.... وهل في مقدور هذه الحكومة العاجزة ان تنزع سلاح المقاومة؟ أو أن تنقل لبنان الى التبعية الاميركية التامة؟ أو أن تبيع أرض لبنان لهذا أو ذاك من الأجانب وتنشئ القواعد العسكرية عليه؟ أو أن تبادل الديون بالتوطين؟ أو أن تجعل لبنان منصة لقتال سوريا وتغيير نظامها أو إخضاعها؟ أو.. أو... الى آخر سلسلة المطالب الأميركية؟؟؟
إن حكومة يرفضها ثلثا شعبها على الأقل لا تستطيع ان تفعل شيئاً وخاصة اذا تذكّرنا ان في لبنان جيشاً للوطن، وليس فيه جيش للسلطة، وشتان ما بين الجيش الوطني والجيش السلطوي...
ان حكومة يكون العجز صفتها، يكون السقوط مصيرها... واستمرار هذه الحكومة التي بطلت صلاحيتها دستورياً وشعبياً وحتى دولياً بات مستحيلاً في المنطق، وغير مفهوم في المصلحة، إذ سيرى الاميركي البراغماتي مصلحة في التخلي عن حكومة عاجزة والبدء بالحوار مع الفريق الغالب في لبنان، كما هي حاله التي بدأت مع الفاعلين الحقيقيين في الشرق الأوسط.. سيحاور فريق السيادة الحقيقية التي تصنع اليوم في ساحات الاعتصام.. لتهيّء لحكومة القرار الوطني المستقل، حكومة تلتزم الواقعية السياسية، فلا تسلم السيادة، ولا تغلق على نفسها الأبواب.. وما المسألة إلا مسألة أسابيع تنقص أو تزيد يحتاج إليها الاميركي لترتيب وضع تفاوضي هنا أو هناك، ويكون الداخل اللبناني أثناءها في معاناة وتعب تشبه معاناة الولادة وهي ولادة سلطة وطنية تبني الدولة المستقلة... كما أرادها الشهداء، وحلم بها الأحرار... نسأل هل تسارع الحكومة المنعدمة الشرعية الى الرحيل قبل ان يرحّلها التخلّي الدولي عنها وهو آت كما أتى الرفض الشعبي لها؟
* عميد ركن متقاعد ــ باحث استراتيجي