روجيه نبعة *
إن الأزمة الحالية التي تفتك بلبنان والتي قد تقضي عليه هي آخر حلقة في سلسلة طويلة من الأزمات اللامتناهية.
هي أزمة متأصلة أحدثت ــ وما زالت ــ أزمات متكررة تعود أسبابها إلى ظهور اضطراري للمقاومة الفلسطينية على الساحة اللبنانية عام 1969.وأما الأسباب المباشرة لهذه الأزمة فهي مرتبطة باغتيال الحريري، وبشكل خاص هي مرتبطة بالانسحاب السوري الذي حصل بعد اغتيال الحريري، والذي جرّ لبنان «المتحرّر» إلى أزمة أنهكت هذا البلد. ومنذ تشرين الثاني شهد لبنان على ساحته السياسية صراعاً قوياً لم يعرفه قط، يجسّد هذه الأزمة!
وعادة، تترجم أزمة من هذا النوع في المؤسسات العامة والدستورية لتتبلور إلى أزمة مؤسساتية ودستورية تعطل عمل كل مؤسسات الدولة ودورها، ولا سيّما أعلى رموزها وأعضائها: فلولا وجودهم لما كان هناك دولة:
رئيس الجمهورية (السلطة التحكيمية والتمثيل الرمزي)، المجلس النيابي (السلطة التشريعية)، مجلس الوزراء (السلطة التنفيذية). وفي ظلّ تحرّك شعبي كبير يزداد كل يوم شحناً، وفي ظلّ «حرب الشوارع الصغيرة»، حيث أي حادث بسيط قد يمتدّ إلى حرب أهلية بكل معنى الكلمة، في ظل حتمية امتداد هذه الأزمة لتطال كل مؤسسات الدولة، فضلاً عن الحرب التي تخوضها وسائل الإعلام ضدّ بعضها من خلال المشاهد والخطابات.
ولكن هذه الأزمة لم تغيّر مبادئها منذ عام 1969، وهي على الصعيد الداخلي، أي اللبناني، تمحورت حول سيطرة «الغلبة»، إلا أن أشكالها ورهاناتها وكيفياتها تغيرت بسبب الظروف (المحلية، الإقليمية والدولية) وحسب دور الدولة الفاعلة (الإقليمية والدولية).
إذاً بدأت الأزمة عام 1969، عندما دخلت المقاومة الفلسطينية على الساحة اللبنانية. هذا الدخول هزّ استقرار البلد والبنية السياسية للبنان، حيث إنه ضرب عرض الحائط «بالغلبة المارونية»، هزّ كيانها الموجود منذ الاستقلال، فنتج من ذلك أوّل أزمة يسجلها لبنان منذ عام 1958، وهي تتعلق بسيادته.
وزاد اتفاق القاهرة عام 1969 المسألة سوءاً، لأنه قدّم حصانة سياسية لوجود المخيمات الفلسطينية على الأراضي اللبنانية، كما أضفى صفة الشرعية على كل العمليات العسكرية التي كانت تقوم بها المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان ضد إسرائيل، ما أسهم في تفكيك الساحة السياسية اللبنانية.
وبين عامي 1969ــ1975، وجد لبنان نفسه بين فكَّي قوّتين حليفتين. الأولى ذات طابع خارجي تمثلت بمنظمة التحرير الفلسطينية، والثانية ذات طابع داخلي وتمثلت بصعود المسلمين وهو صعود عرفت منظمة التحرير الفلسطينية كيف تستغله. وبسبب ظروف قاهرة، أصبحت المنظمة ــ وهي قوة إقليمية في حالة حرب ضد إسرائيل، لكنّها أيضاً في صراع مع الدولة اللبنانية التي حاولت أن تستعيد سيادتها على الأراضي التي تمركزت فيها هذه المنظمة ــ عبئاً على الحياة السياسية اللبنانية، حتى «استولت» على بيروت فحوّلتها إلى عاصمتها الرمزية، سالبة الدولة اللبنانية حقوقها الذاتية، وأهمها: «قرار الحرب والسلم» و«حقّ احتكار العنف». ولكن، بموازاة هذه المسألة، ظهر أمر أكثر خطورة، هو صعود المسلمين الذين استقووا بالمقاومة الفلسطينية، مشككين بالتالي «بالغلبة المارونية». وكشفت «حرب الـ 73» حدود إمكان الصدام بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية. لكنّها لم تلغ إرادة الاستعداد له. فكان لبنان يعدّ نفسه لحرب ما بين عامي 1969 و 1975... واندلعت الحرب صبيحة 13 نيسان من العام 1975. صحيح أن الأزمة جعلت الحرب تدوم وتستمر، ما وضع لبنان في مأزق وفي حالة إرباك وتشويش بفعل تدخل عدد من الدول والقوى الإقليمية التي احتلت الساحة اللبنانية، والأسوأ أنها تبادلت الأدوار بشكل مستمر وهي: منظمة التحرير، وسوريا وإسرائيل، بالإضافة إلى القوى السياسية المحلية، فضلاً عن الدول العظمى التي كانت في حالة ترقب.
كانت تجربة الحرب قاسية على الجميع. وكانت كل طائفة من الطوائف الكبرى متورطة في صراع الاستيلاء على «الغلبة». إلا أن كل طائفة من الطوائف الكبرى تعلمت من حسابها أنها لا تستطيع إنهاء الصراع من دون الاستعانة بالخارج. لا بل لا تمتلك في قوتها، ولا في ذاتها، ولا في إمكاناتها قدرات «الغلبة» التي تمثلها.
في إطار هذه الفوضى التي عمّت البلاد منذ نشوء الأزمة، حيث تشابكت مصالح «الخارج» مع مصالح «الداخل»، كانت كل طائفة تستند إلى «خارج» حليف أو صديق لها، وهو في آن واحد خصم لطائفة أخرى! وبالتالي، لم يحصل في تاريخ هذه الطوائف مجتمعة أن اتفقت على هوية حليف واحد أو هوية خصم واحد. والأسوأ من ذلك، أن الحليف والخصم كانا يتبادلان الأدوار، وبالتالي لا بد أن يكون خصم أي طائفة حليفاً لطائفة أخرى.
من هنا، نفهم كيف خرجت النزاعات الداخلية ومسألة «الغلبة» من نطاقها اللبناني لتصبح قضية خارجية تخص القوى السياسية الداخلية الفاعلة بقدر ما تخص القوى الخارجية الفاعلة.
وباختصار، المحاورات التكتيكية تابعة للداخل، شرط أن تندرج ضمن استراتيجية مرسومة في الخارج ومن الخارج!
ونجح اتفاق الطائف عام 1989 في أن يعلّق الصراع حول السيطرة على «الغلبة»، إذ تم تحييد «الغلبة» إلى حد انحلالها. فجرّد رئيس الجمهورية من مجمل صلاحياته، لكن في المقابل لم ترث أي طائفة أخرى هذه الصلاحيات، بل ورثتها مؤسسة عامة، هي مجلس الوزراء الذي يرأسه سني. لكن رئيس الوزراء لم يرث صلاحيات رئاسة الجمهورية، مجلس الوزراء هو الذي ورثها بصفته مؤسسة تمثل السلطة التنفيذية، ما يعني أن المؤسسة حضنت «غلبة متشعبة».
لكن التدخل السوري في لبنان جاء مدعوماً دولياً بسبب ظروف إقليمية ودولية أطاحت وهمّشت الدور الإقليمي لإسرائيل ومنظمة التحرير، وفرض على لبنان «غلبة» تخصّه، وطوال فترة الوجود السوري في لبنان، جمّدت صراعات «الغلبة».
وشكّل وصول الرئيس حريري إلى الحكم بداية في تغيير القواعد السورية في لعبة «الغلبة»، لأنه بدأ يسعى في السيطرة أو الاستيلاء على «الغلبة» لمصلحة الطائفة السنية. ولكن أي تغيير في قواعد اللعبة السياسية يتطلب الاستعانة «بالخارج»، أي «خارج» لا علاقة له بالذي يلعب دور «السيد التقديري» في الداخل. وبفضل مقامه الإقليمي والدولي، وإمبراطوريته المالية، استطاع الرئيس الحريري أن يطلق ديناميكية الاستيلاء (الغزو).
وبعد اغتياله، استمرت هذه الديناميكية حتى زادت وتيرتها إثر الانسحاب السوري من لبنان. هذا الانسحاب الذي «حرّر» لعبة «الغلبة»، ما جعل الساحة اللبنانية، ساحة مفتوحة لكل الصراعات الجيوسياسية، ما جعل لبنان عرضة لمهب الريح.
والجدير بالذكر، أن الحرب الأهلية في عام 1975 أفرزت عاملين أساسيين، شكّلا انقلاباً على البنية السياسية اللبنانية وحتى الإقليمية. وساهما في تعقيد لعبة «الغلبة» على الصعيد اللبناني، وعرقلة تداعيات النظام على الصعيد الإقليمي.
وأما الأزمة الحالية في لبنان، فهي تقف في وجه ديناميكية سيطرة «الغلبة» التي أطلقتها الطائفة السنية، والرئيس الحريري، ومن ثم جاء خلفاؤه واسترجعوا هذه الديناميكية، ليس فقط لأسباب داخلية (صراع القوى)، ولكن أيضاً لمنع السيطرة أو الاستيلاء على الحكم من قبل «الغلبة السنية»، ومنعاً من أن يدخل لبنان في «محور الدول الحامية» (فرنسا، الولايات المتحدة...). فيما التصدي لهذه الديناميكية يعني تعليق أي تمركز للقوى الحليفة للغرب، وترجيح كفّة الميزان لمصلحة «الحامي» الإقليمي (إيران، سوريا).
وبفعل هذا الانقسام الموجود في لبنان بين فريقين، حيث كل فريق يتمتع بشعبية شرعية، أحدهم يريد من الآخر أن يتخلى عن هدفه في امتلاك «الغلبة»، أما الآخر فيبحث عن مخرج للتخلص من الضغط، تبيّن أن لبنان يحتوي على لبنان واحد، ولبنان اثنين، كلاهما يقف في وجه الآخر، والصراع بينهما يتجه نحو حائط مسدود.
* كاتب لبناني
(ترجمة غادة حب الله)