سعد الله مزرعاني *
ثمة معادلة تتبلور وتترسخ أمام أعيننا كل يوم. إنها المعادلة التي ارتبط بموجبها فريق الأكثرية بالخطة الأميركية. والخطة المذكورة، دشنها احتلال واشنطن للعراق، حيث اختارته منطلقاً ونموذجاً تسري مفاعيل إخضاعه، بهذا المقدار أو ذاك، على سائر «الشرق الأوسط الكبير». في مرحلة الوجود السوري في لبنان، العسكري والاستخباري (وأساساً السياسي)، كان الاتصال بواشنطن مبرراً، ربما، من وجهة نظر أولئك الذين كانوا يبحثون عن مصادر دعم لمطلبهم المتمثل بالخروج السوري من لبنان، بأسرع وقت ممكن. ولا شك في أن الدور الأميركي كان فعالاً. وأعلن الرئيس الأميركي تكراراً (وكذلك وزيرة خارجيته)، أن الولايات المتحدة الأميركية «قادت تحالفاً لإخراج سوريا من لبنان».
وفي فترة من الفترات، بدت الحركة الشعبية المهيبة التي انطلقت في شوارع العاصمة وساحاتها (وخصوصاً 14 آذار)، حركة نوعية من زاوية شعاراتها ووعودها الاستقلالية. كان ذلك، على رغم الحذر الذي راود الكثيرين بسبب الخلل في برامج وعلاقات القوى الطائفية، وبسبب الاستهدافات الأميركية لكل المنطقة، على نحو ما أشرنا إليه آنفاً.
الواقع أن أسئلة تلك المرحلة، أساسية وكبيرة وخطيرة:
ــ هل كان حتمياً، كثمن للحصول على الدعم الأميركي والغربي...، الانضواء الكامل إلى نطاق الخطة الأميركية في المنطقة، وبالتالي العمل بموجب شروطها وإملاءاتها؟
ــ هل كان ممكناً الاكتفاء من التعاون بتقاطع مصالح، حصة الطرف اللبناني فيه خروج السوري، والطرف الأميركي إضعاف السلطة السورية على طريق تغيير سياسة نظامها (حيال العراق خصوصاً)، أو تغيير نظامها نفسه؟
في ضوء الجواب، حصل فرز، ثم قطيعة، مبكِّران ما بين فريقي 14 أذار:
1 ــ فريق الأكثرية الراهنة الذي اختار الارتباط بالسياسة الأميركية. وهو كان، ولا يزال، منذ ذلك التاريخ، يراهن على نجاح هذه السياسة، ويجتهد، من جهته، في تنفيذ ما يُطلب منه (أو يُملى عليه) مساهمة في هذا النجاح، آملاً أن ذلك سيوفر له شروطاً حاسمة لتوطيد سلطته والحفاظ على مواقع نفوذه.
2 ــ فريق «التيار الوطني الحر» بقيادة العماد ميشال عون، الذي اعتبر ان الخروج السوري من لبنان هو ثمرة تضحيات محلية بالدرجة الأولى. وهو تعامل مع الانسحاب السوري بوصفه مناسبة لتغييرات نوعية في مواقف القوى اللبنانية (وخصوصاً منها التي كانت تناهض الوجود السوري)، حيال العلاقات مع سوريا بشكل عام، والعلاقات اللبنانية ــ السورية، بشكل خاص.
قلنا، آنفاً، إن فرزاً مبكراً قد حصل. والواقع أن العماد عون قد سارع، منذ لحظة تيقّنه من حتمية الانسحاب السوري في خريف عام 2004، الى الدعوة الى «مؤتمر وطني» لبحث توفير الشروط، لكي يكون هذا الانسحاب طبيعياً. وهي دعوة تنطوي في الشكل والمضمون (وجّه أيضاً دعوة إلى حضور هذا المؤتمر الى الحكومة السورية)، على رغبة واضحة في فتح «صفحة جديدة» في العلاقات اللبنانية ــ السورية، واللبنانية ــ اللبنانية، في آن معاً!
لم يسهّل أحد مهمة العماد عون، لا السوريون ولا خصومهم (القدماء والجدد) في فريق «البريستول» الآخذ في التبلور إطاراً واسعاً للمعارضين. لكن عون، على رغم ذلك، سجل تمايزاً، ما لبث أن تعمق تباعاً ليشكل أحد أبرز معالم عمارته السياسية قيد الإنشاء. يمكن القول، الآن، وبعد متابعة وتتبّع، بأن القوى الأساسية في فريق الأكثرية الراهنة، لم تقع، إطلاقاً، ولو للحظات، في حيرة الاختيارات المتاحة أو الممكنة. لقد حزمت أمرها، منذ البداية، بطلب الدعم من واشنطن، أو تلقف هذا الدعم، من دون تردد. وقد ساعدتها على ذلك، أو عمّقت من اندفاعتها، جملة أخطاء سورية، سياسية وأمنية، لتتحول العلاقة مع واشنطن رهاناً سياسياً كاملاً، بكل إيجابياته الظاهرة، وسلبياته اللاحقة، المتوقعة أو الكامنة والمؤجلة (نسبياً).
وكان ذلك، يعني ولا يزال، تغييراً جذرياً في موقع لبنان في صراعات المنطقة. وكان ولا يزال يعني تفاعلاً مع هذه الصراعات من الموقع الأميركي تحديداً. وكان ولا يزال يعني بالتالي، جملة التزامات، من أخطرها وأكثرها إلحاحية العلاقة السلبية الصراعية مع النظام السوري. قد يظن البعض أن الحديث يدور هنا حول مجرد فاتورة، على سلطة الأكثرية اللبنانية أن تدفعها مقابل الخدمات الأميركية لها في سبيل الوصول الى السلطة والمحافظة عليها. غير أن ما بدا من مواقف الأكثرية هو أبعد من ذلك بكثير. لقد تحول قادة هذه الأكثرية، في المواقع الرسمية وسواها، الى أميركيين أكثر من الأميركيين أنفسهم!
وحيث إن المطالب الأميركية من لبنان تتعدى صراعاته وتناقضاته الخاصة (في الحدود التي هي كذلك)، الى صراعاتها المرتبطة خصوصاً باحتلالها العراق ومشاكلها السياسية والعسكرية هناك، فقد تحول لبنان الى ساحة تبدو الآن مفضّلة لواشنطن لممارسة بعض نجاحات سياستها الخارجية!
نعم، إن أولئك الذين يكرِّرون كل ساعة رفضهم تحويل لبنان الى أداة لحروب الإيرانيين والسوريين، قد اختاروا بكل رضاهم تحويل لبنان ساحة وأداة لتحقيق بعض الأهداف الأميركية. ولا ينحصر البرهان على هذا الاستنتاج الخطير فقط بنشاط السفير الأميركي خصوصاً، والدعم غير المعهود وغير المسبوق لفريق الأكثرية من الرئيس بوش وإدارته، إنما يتعداه الى معظم السياسات المعتمدة من هذا الفريق حيال مجمل المسائل المطروحة في لبنان طوال السنة ونصف السنة الماضية، على الأقل. وفي امتداد لذلك، برزت نزعة الاستئثار على حساب المشاركة المتوافق عليها. وبرز نهج تعميق الارتباط بالمؤسسات الاميركية وخصوصاً الأمنية منها... وهكذا فقد كان تحويل مواضيع المحكمة الدولية وسلاح المقاومة وقبلهما مزارع شبعا والحدود... الى مواضيع نزاع متأجج، ثمرة رغبة أميركية ملحاحة في تظهير عناصر الصراع مع سوريا وتقديمها على كل ما عداها...
إن استخدام النفوذ الأميركي في لبنان (الوصاية) في اتجاه دفع سلطته لتكون أداة في الاستهداف الأميركي للنظام السوري، هو أمر يتعارض تماماً مع مصلحة لبنان في إقامة علاقة طبيعية بين لبنان وسوريا: علاقة مبنية على التكافؤ واحترام سيادة البلدين وعلى التعاون والتنسيق بعد التخلص من سلبيات العلاقة السابقة....
وليس من المبالغة القول إن الإصرار على تلبية المطالب الأميركية، إنما هو نهج انتحاري جديد يغامر أصحابه بلبنان أولاً، وبأنفسهم قبل ذلك أو بعده!
لا يعني ذلك أن قوى المعارضة ليست لها ارتباطات، ولا أن السلطة السورية قد استخلصت كل العبر الضرورية من تجربتها الماضية في لبنان... ما نود الإشارة إليه هنا محذّرين ومنبّهين، هو المخاطر المدمرة الناجمة من نهج الأكثرية الذي كان يمكن تفاديه في الماضي، بينما يبدو ذلك أصعب في المرحلة الراهنة!
* نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني