سمير صالحة *
يُعرف عن الرئيس العراقي جلال الطالباني شخصيته المحببة وروح النكتة والذكاء الحاد والقدرة المتفوقة على التعامل مع الأحداث مستفيداً من تجربته السياسية وثقافته الواسعتين لكنه فاجأنا هذه المرة. سبق له أن هدد بإضرام النار في البواخر والسفن التي نقلت كل ما يمكن حمله الى الشعب العراقي في السنوات الأخيرة من دعم وخدمات وساهمت في استضافة عشرات الآلاف من العراقيين في دول الجوار الصديقة والشقيقة وفتحت الأبواب أمامهم مشرّعة تركياً وسعودياً وايرانياً وسورياً وكويتياً وأردنياً لا فرق.. لكنه كان حقاً مختلفاً هذه المرة.
فجّرها مع أنقرة وأغضب القيادات السياسية والعسكرية هناك العاجزة عن إقناع واشنطن بتغيير سياستها العراقية لأن ما يقوله يتناقض مع تحذيراته من مصطلح عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان. فهو ينبري للتحدث باسم «حزب العمال الكردستاني» الذي عاد أخيراً إلى استهداف الجنود الأتراك في عمليات تتركز ضمن مناطق جنوب شرق تركيا مما حدا بوزير العدل المتحدث الرسمي باسم الحكومة التركية جميل شيشاك لتذكيره بأيام زمان عندما كان يقصد أنقرة شاكياً طالباً العون والمساعدة. وفجّرها إقليمياً أيضاً بعدما حاول استغلال فرصة وجوده في الولايات المتحدة الاميركية لتهديد دول الجوار العراقي بدعم المعارضة السياسية هناك إذا لم تتوقف هذه البلدان عن التدخل في الشؤون العراقية.
من أين حصل الرئيس العراقي على هذا الدعم لإطلاق مثل هذه المواقف والاتهامات ضد تركيا والكثير من دول الجوار العراقي التي لم تتردد ولم تبخل في أحلك الظروف في مد يد العون والوقوف الى جانب الشعب العراقي.
هل يكون صمود حزب الله في لبنان في وجه القوات الاسرائيلية هو الذي أزعج الطالباني مثلاً بعدما شجع هذا الانتصار العديد من القوى الاقليمية والدولية وفي مقدمهم أميركا التي تتعلم من أخطائها طبعاً لمراجعة سياساتها وحساباتها في الشرق الأوسط وفي العراق تحديداً؟
الطالباني غاضب ربما لأن زيارته الأخيرة الى الولايات المتحدة لم تحقق له انتزاع ما جاء من أجله وهو لم ينجح على ما يبدو في المضي في سياسة إقناع الأميركيين بقدرته على الاستفراد بحماية مشاريعهم في العراق لا بل إن وصول رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الى نيويورك فيما كان يغادرها هو مطلقاً مثل هذه التحذيرات والتهديدات على مسمع ومرأى الادارة الاميركية يعني ان سنوات كثيرة من الوعود والنفخ في الأذن الاميركية لم تقُد سوى الى توريط ادارة البيت الأبيض في مستنقع العراق على حساب إشعال الضوء الأخضر أمام الدويلة الكردية في الشمال.
هو منزعج ربما لأن سياسة «خطوة أخرى وننتهي» للتقدم فدرالياً وكونفدرالياً ثم إنزال الضربة القاضية بإعلان دولة اللاحول ولا قوة الكردية في شمال العراق، تواجه صعوبات وعراقيل إقليمية ودولية جادة. قد تكون القمة المصرية ــ الأردنية وتحركات الرئيس الايراني أحمدي نجاد ومواقف السعودية الأخيرة في أعقاب الحرب الاسرائيلية على لبنان والمعارضة العربية والدولية الكبيرة لمشروع إنزال العلم العراقي واستبداله بعلم منطقة نفوذ الحكم الذاتي وغيرها من المواقف المتصلبة في حملة التصدي لمشروع تفتيت العراق وتقسيمه هي ما تقلق الطالباني أكثر من أي شيء آخر. قد يكون الرد الاميركي بضرورة التريّث حيال الطلبات الكردية العاجلة والملحة دائماً في التعامل مع مسائل كمصير كركوك ودستور الدويلة الكردية والاصغاء شيئاً فشيئاً الى صرخات الأقليات في شمال العراق هي التي تقلقه هذه الأيام.
مواقف الرئيس العراقي الأخيرة لها دوافعها حتماً وهي أسباب جدية بالغة الأهمية وإلا لما كان تخلّى عن لغة التحذير واستبدلها بتصريحات التحدي والتهديد، لكن بين هذه الأسباب لا مكان في رأينا لاحتمال التراجع عن «الكارت بلانش» الممنوح الى واشنطن وحلفائها الاسرائيليين والبريطانيين. هل هي معضلة تراجع خطة «الهجوم الوقائي» وعجز درع الحماية الاميركية عن صد عشرات الهجمات السياسية والأمنية المتزايد عددها يوماً بعد آخر في العراق، سبب انزعاج الطالباني ودفعه إلى التهديد على هذا النحو بكبس الزر في دول الجوار العراقي لتفجيرها كردياً وسط هذه الظروف التي تعيشها المنطقة؟
وصول وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس العاجل والملح الى العراق للاجتماع بالعديد من الزعماء والشخصيات السياسية هناك وتحذيراتها الجديدة من عدم التلاعب بورقة النفط في الشمال لأنها قد تتحول هي الأخرى الى برميل بارود جاهز للانفجار الى جانب عشرات البراميل الأمنية والسياسية والاجتماعية التي تهدد العراق في وحدته وتماسكه، أزعج الطالباني ربما. وربما هي الاتصالات التركية ــ الاميركية التي تجددت بعد زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة الى العراق وبعد أكثر من 3 سنوات من الجمود وترجمها على الفور قرار التنسيق الأمني التركي ــ الأميركي حيال أكثر من قضية تعني البلدين.
محاكاة دول الجوار على هذا النحو كانت تفترض أولاً صحة توقعات الطالباني وتحقيق وعوده التي قدّمها للأميركيين في حملة العراق وإيصال البلاد الى برّ الأمان من دون المساس ببنيته وتركيبته وتوازناته، ومع ذلك لن تدفعنا محاولاته اليائسة لإقناعنا بأن العراق يتقدم على طريق الديموقراطية وانتشار الحريات والامن والاستقرار، إلى التخلي عن قناعتنا الكاملة بميزاته وقدراته كسياسي مخضرم من الطراز الأول على مراجعة مواقفه وحساباته.
المزيد من الحرية والديموقراطية والعدالة والاعتراف بحق المشاركة لأكراد العراق وأكراد العالم في مناطق انتشارهم لن توازنه حتماً معادلة إطلاق التهديدات والتحديات بتغيير الخرائط والتوازنات والاستقواء على حساب معاناة دول المنطقة وشعوبها وتشرذمها. أفضل ما يمكن فعله عربياً وايرانياً وتركياً وسط هذه الظروف هو الإسراع في عقد قمة طارئة لدول الجوار العراقي، بعدما تجمدت نشاطات هذه الحلقة ولقاءاتها، تتدارس صورة الوضع الجديد في العراق خارج أفكار طالباني ومواقفه وتصريحاته الأخيرة التي جاءت طبعاً متعارضة تماماً مع الاحتراف الدبلوماسي ومتانة الأعصاب وروح النكتة التي عوّدنا عليها. بالمناسبة فليسمح لنا الرئيس العراقي المعروف عنه رحابة صدره أن ننقل إليه آخر الطُرف التركية التي تتناقلها الألسن في الشارعين الاعلامي والسياسي حيث يشاع ان الطالباني تراجع عن تحذيراته لدول الجوار من عدم التدخل في شؤون العراق الداخلية ليطالبها هذه المرة بعدم التدخل في شؤون أميركا الخارجية.
* صحافي تركي من اصل عربي