بسكال لحود *
سيّدي القاضي، تحتاجُ إلى الكثير من الصبر لتَسمع شكواي، لكن طالما أنَّك لم تولد بعد، وأن منصبك الذي منه ألتمس العدلَ لم يَجد مَن يطالبُ به، فلن أشعرَ بالذنب. أمّا الذين سيبتلون بقراءتي، فَذَنبُهم فضولُهم... أو صرامَةُ حِمْيَتِهِم الثقافية التي تحرِّم عليهم تفويتَ شيء من مَللِ القراءة.
1983، العمر 5 سنوات، ولا أجيدُ التلوين...
«حسن» و«لا بأس» تتناوبان على تيئيسي. فالمعلمة تحبُّ الخطوط المستقيمة وما لم نغطِّ المساحةَ المطلوبة بخطوط متوازية متلاصقة كشَعر مسرَّح أو تنورة مكسَّرة، فلن نحظى بأكثر من لا بأس.
لم يقل لها أحد إنّ الأولاد في هذا العمر لا يجيدون التحكُّم بأعصاب أصابعهم، كما لم يقل لها أحد إن في الطفولة ما يقاوِم طبيعياً كلَّ مؤامرات التربية للتحكُّم بأعصاب أصابعِنا ...ومثاناتِنا ومصاريننا.
بقيت ألوِّن في كلِّ الاتجاهات ــ فالطفولة لِجهلِها بالتحايُل تجهلُ مفهومَ الاستقامة ــ ولم تنفعْ معي الملاحظات. وبقيت أكتب عمودياً على سطور أراها وحدي، سواء انفلشت آفاق الدفاتر سطراً سطراً، أم سطراً فسطرين.
إلا أن مهمة التلوين تنطوي على مطبات أخرى تتجاوز حدود «حسن» و«لا بأس» هي أن علينا ألا نتخطى حدود الرسم المطبوع، فالويل لمن ضُبِطَت لهُ بقايا تلوين خارجَ الخطِّ الأزرق. هل كانَ أزرق..؟ مهما يكن، كانت له هيبة الخط الأزرق.
آثرت تفادي المخاطرة، والتراجع عن الخطِّ الأزرق إلى الداخل، لئلّا يشردَ أحدُ «قراقيري» (جمع قرقور، فلا كلمة جداء ولا كلمة حملان تفيد المعنى المطلوب) إلى أرض العدو... رحتُ أرسم أشكالاً داخلَ الأشكال، ألوِّنُها وأخرقُ حدودها كما يحلو لي من دون أن أخرجَ على الخطوطِ الرَّسمية.
لم يطُل بي السكونُ في مخيَّم العصيانِ المنضَبِط، فكان أن اخترعتُ أسلوباً في التلوين يقضي باعتماد أكثرَ من لون للملابس كأن أجعلَها منقَّطة أو مقطَّعة أو مقلَّمة... كانت تلك طريقتي في إضافة شيء على الرسم بدون فضِّ هيبة الخط الأزرق.
وأذكر جيداً صورةَ العشاء السرِّي ــ وفيها الكثير من الملابس والحقُّ يقال ــ استلزمتني إعادة حياكة الأقمشة فترة بعد الظهر بكاملها، فإذا مار بطرُس بثوب أخضرَ ورداءٍ زيتي مقلَّم بالأصفر، وإذا الإسخريوطيُّ برداء بنفسجيٍّ منقّطٍ بالزهري...(لم يقل لي أحد إنه لو كان الفكر اليهودي قادراً على رؤية الكون بالألوان لما كان لدينا صف تعليم مسيحي ولما تعذّبنا بتلوين أزياء العشاء السري).
ولشدَّة ما تضامنت عضلاتُ الأطراف البعيدة مع عضلات مناطقي المنكوبةِ بلعنةِ التلوين، استيقظتُ في الصباح التالي مع آلام متفرقة... فمن خصائصِ الطفولة أنّ أقلَّ عمل يتنطحُ له عضو، أيُّ عضو، يثير تلقائياً تأهُّبَ معظم الآخرين، من الحواجب إلى الكواحل... وعلى مدى السنوات التسع والعشرين التي أقمت فيها بين هذه الحواجب والكواحل، لم أسمعْها مرةً تعاتِبُ أصابعي على اتخاذِها منفردةً قرارَ التلوين أو عدم التلوين، أو على خلفية إيثارها البنفسجي والزهري.
مهما يكن، ذهبت بمفاصلي المتذمِّرة إلى الصف فخورةً بما اجترحتُه...
لم تكلف معلمتنا نفسها دقيقة تفكير قبل أن تدلق عليّ سطل حكمتها التربوية:
طلعوا هالرُّسُل متل المتاولة...؟!
بصراحة، لم أعرف يومها من هم «النتاولة»، وعندما صحَّحوا لي في المنزل أنهم متاولة (بالميم)، أفتيت لنفسي أنَّ المتاولة هم «المتل ــ بعضن»... لم أقتنع، لكني عرفت، من الغضب الذي صُبَّ على أزيائي، أنه لا يجوز أن أكون نتاولة...
اعتزلت التلوين في سن السابعة يا سيدي، فتهمةُ الانحياز للمتاولة كانت أكبرَ من أن أفهمها وأتتني أبكرَ مِن أن أفاخر بها. قصرْتُ الكتابة العَمودية على أوراقي، أما معاملاتُ المدرسة الرسميةُ فجعلتها مطابقةً لمواصفات المعلمة ونزواتِ مصرانها المكبوت منذ الطفولة... ومن يومها أخذتُ أكتب داخل الخط الأحمر (من دون أن أنتبه أنني أنصاع لمبدأ تهميش الهوامش...) أفقياً دون أي طموح شاقولي...
عرفت أنه لا يجوز أن نكون متاولة، ولا يجوز أن نخترق أي خط من أي لون كان...فآثرت الجوع على قرقشة الخيارات الهزيلة، وامتنعت عن الرسم.
وإذا ما حظيتُ بمحلل نفسي في المحاكمة فقد يجد أسباباً تخفيفية لامتناعي الحاليِّ عن دفع الرسوم، وإنجاز المعاملات الرسمية، واحترام الرسميين، والالتزام بمندرجات المراسيم... فما ذقتُهُ من ويلات الرسم لم يكن بالأمر القليل. لكنّك وإن كفيتَ النزوات التربوية شرَّ ولدناتك وحريتك، فلن تأمنَ شرَّها. فما كدت أنسى احتمال كوني «متاولة»، وما كان ليرتَّبَ على ذلك الاحتمال، حتى قرَّر العبث ــ شفيعُ التربية في لبنان، لمن لم يقرأوا انكسار الخصوصية اللبنانية ــ قرَّر تأهيلي إلى مراحل عليا من وعي الانتماء.
1985، انتقلت إلى مدرسة أخرى، المعلمة جديدة... إلى أن:
ـ شو بِكُنْ متل المهجَّرين؟ قالتها المعلمة بامتعاض أين منه حسن ولا بأس... والمسألة كلها أننا أردنا أن نأتي إلى الامتحان، كما الكبار، من دون حقائب، مستعيضين عنها بشريط مطاطي تُحزم به دفاترُ قليلة (لم نخترعْه، كان موضة)، ... خربش المشهد حسَّها الجمالي وصدَّع ثقتها بالتربية: أتبذُلُ كلَّ ذلك المجهودَ التمدينيَّ لينتهي تلامذتُها شبيهين بالمُهجّرين؟
أنجع الدروس يا سيدي ما يُنقش بحديد الإهانة الحامي على جفون الطفولة...فهمتُ: لا يجوزُ أن نكون مهَجَّرين. هذه لم يكن بإمكاني التحايل ُعليها... كنتُ «مهجرين»! غير أنني ما عرفتُ إلا يومَها أن التهجُّر (لا التهجير) عيب.
زلزالٌ داخليٌّ بقوة دَرَجٍ كامل على مقياس ريختر يا سيدي ... سُوِّيَتْ كل مدائنِ البال بالأرض!! لا بكاء.
لم أبكِ...وبعد خمسِ دقائق، لم أبكِ أيضاً. وبعد عشرِ دقائقَ لم أبكِ. هطَلَت فجيعتي في الداخل، اقتلعَتْ كلَّ نخيلِ الأنا، ابتلَّت حتى الركبِ كلُّ الكلمات، وغسيلُ الكبرياءِ المنشور على السطح ما زال يقطرُ ماءً مالحاً ومهانة. يومها، بقي الماء والملح والمهانة في الداخل، ولم أبكِ... برافو.
لكنني لم أنتفض كذلك... ولم أغفر لنفسي عدم الانتفاض (وسوف أبقى أنتفض بسبب وبدون سبب: أنتفض لفلسطين، للنساء، للبيئة، للكعب العالي، لِحقوق الزرافات الأرامل، ولا ما يسدد دين تلك اللحظة التي لم أثُر فيها نُصرة لِتَهَجُّري)، لهذا يا سيّدي أصبتُ بمرضِ النضالِ العُضال، ومَرَضي هذا يكلّفُكُم أعباءً إضافيةً في تمويل فرقِ مكافحةِ الشغب .
لم أبك إذاً. اكتفيتُ بضربِ شربل في الملعب، فشربل ليسَ مهجراً، قريته على مرمى لفتةٍ من المدرسة... أدميتُهُ.
شربل مهجَّر في كندا اليوم.
كَمَن بدت له عورتُه فجأة، كَمَن سمعَ اسمَه للمرة الأولى سوطاً على جلدِهِ، صرتُ «مهجَّرة». عمَّدتني التربية مهجَّرة، فتحَتْ في كلٍّ من مسامات وعيي لواقِطَ لاختلافي... عن رفاقي الذين، وإن أتوا من القبَّة ودير الأحمر والمصيطبة، يُجمعون على قول مُوز (لا مََوز) وبِيت (لا بَيت) وهُوني (لا هَون)... يتكلمون عادي (تلفظ الألف هنا كحرف الـ a بالفرنسية لا كحرف الـ é).
أتعرِفُ يا سيدي من وقف بجانبي يومها؟ خليل تقيّ الدين. أجل. كــــذَبَ مَن قال إن التهجُّر يعلِّم الطائفية. كان أحد أبطال قصصِهِ العشرِ يلحَنُ مِثلي في الكـــــلام: «قيسم يا معلمي قيسم» (عوض قــــــــاسم) ويسخر منهُ أبناءُ اللسان العادي.
وجدتُني أستوطنُ مفكِّرة أمين نخلة الريفية، وأرتجلُ من «عهد الأمير» بشير كما رواه فؤاد إفرام البستاني، تاريخاً يَعترفُ بي، وأدمِنُ انتصاراتِ المير على بشير جنبلاط بحماسة شبيهة بحماسة المراهقين للمونديال.
تعكزت على أقلام أولئك الشوفيين... يوم بَتَرَ التهجُّر نصفَيَّ وأرباعي الأربعة ولم يأبه بي أيٌّ من هواة الشهداء الأحياء. تعكَّزتُ عليهم إلى أن فَتَلَ العمرُ عضلاتِ الرفضِ فيَّ واحترفْتُ الإرهابَ المضاد. أجل يا سيدي، أعترف انني أرهبتُ معلِّميَّ ... وكل ضباطِ السلك التعليمي الذين قدِّر لي أن أتعلم تَحْتَ أمرتهم. أليسوا من استمر في الاحتفال بالاستقلال يوم لم يكنْ لي وطنٌ؟
ألم يطلبوا منّا، كلما جفَّت قرائح الكتب، أن نكتبَ موضوع إنشاء نَصِفُ فيه ضيعتَنا غير آبهين بكون أكثريتنا لا يعرفونَ قراهم؟
ألم يدرِّسونا نشيداً وطنياً يطلُبُ أن نكون كلُّنا للوطن، فيما الوطن مرتاحٌ في أن يكون لبعضِنا ـ العادي ـ فقط؟
ألم يتخلَّوا عنّا يوم ألمَّ بنا الطائف، فأنكروا كل ما علَّموناه وصِرنا العجولَ المسمنةَ المعدَّة للاحتفال بعودتهم إلى حظيرة العُروبة والعيشِ المشترك...؟
أنا، لم أتب... أردتُ الدراسةَ يومَ عيد الفطر، وامتنعتُ عن إنجازِ تمارينِ اللغة التي احتوت آية قرآنية أو حديثاً شريفاً، وبقيت آخرَ المدافعين عن الفَينقةِ عندما تاب عنها الكتابُ والأستاذُ... وجمهور المعلمات المصابات بالمتاولة ــ فوبيا.
2006، معلمة شغوبة، شغوفة بتلوين السائد في أدبيات الوسط التربوي بألوان المتاولة والمهجرين وكل شياطين الاختلاف الرجيمة... وقد لا ينجو أولادك من شغبي وشغفي. وخير العبث التربوي لقدّام.
سيدي... تلك كانت شذرات من قصتي مع وطن المدرسة. مشاهدُ من تدُّرجي في إعدادية الشغب. فما شغبي يا سيدي سوى ضرب على أصابع الوطن علَّه يتعلم أن يرانا بالمفرد. وما صوتي العالي وأصابعي ــ المطارق سوى دفاعات طوّرْتُها في غيابك، فانوجد كيما أستعيد حنجرتي ويدي، وأبيت إلى سيرتي الذاتية حرةً من قدر النضال العضال.
وإن صدق من لا ينفك يقرع آذاننا بضرورة إصلاح ما في النفوس قبل النصوص، فلا بد من دعم نياته الحسنة بضرورة رفع يد العصفورية التي تسن النصوص عن كاهل المربين والدروس، بحيث تتفرغ للعبها الرديء بعيداً عن الأطفال. وريثما نصبح دولة جديرة بأن تستردَّ أبناءها من مياتم الطوائف، ومياتم ما شبِّه لنا أنَّهُ تعليم رسمي، فلنكتفِ بتعليم الأولاد الصبرَ على أهلهم بالتبني والصلاةَ كي يعجِّل الله فرج الوطن المغيَّب.
لست فرداً يا سيدي... لست إسم علم، أنا أيُّ أحد... قصصي هي قصص الجميع، قصصٌ جديّة يا سيدي، حبَّذا لو تقرأها بعدما تنتهي من اللهو بالمحكمة الدولية.
* كاتبة لبنانية