إيلي نجم *
لماذا ينشد عدد غير قليل من الناس السلطة، ويتطلّعون إلى تسلّم مقاليدها؟ بل لماذا يصابون بـ«مرض» السلطة، فيسعون وراءها، ويتهالكون على الفوز بها، ويستميتون في المحافظة عليها، ولا سيّما أنّهم يدركون مسبقاً المتاعب التي سيواجهونها، والنزاعات التي سيتعيّن عليهم فضّها أو حسمها والمسؤوليّات التي سيضطلعون بها؟
يقول بعض المحلّلين النفسيّين إنّ الذي يسعى وراء السلطة السياسيّة (والسلطة التي يمارسها الحاكم في الدولة على جمهور المحكومين هي السلطة بامتياز) هو صاحب شخصيّة هشّة تتّصف بنرجسيّة تجعله خاضعاً لنظرة الآخرين إليه، هؤلاء بالضبط الذين يمارس عليهم سلطته. وبالتالي، فإنّه يلتمسها ويتوسّل بها لمعالجة «الجنون» الخفي الذي يسكنه أو «المرض» الذي أصابه. في هذا السياق، يقول الفيلسوف الفرنسيّ ميشال سير: «لا يتسلّم مقاليد السلطة إلاّ أولئك الذين يغدو الجنون عندهم خطراً على الناس». فكيف لهؤلاء إذاً أن يـــــــــمارسوا هذه الســــــــــلطة ممارسة سلــــــــيمة أو على الأقلّ سلميّة؟
لنقل بدايةً إنّ السياسة قد تكون المجال الذي تظهر فيه الجوانب الأكثر ذاتيّة في شخصيّتنا، وبالتالي الأكثر لاعقلانيّة، بمعنى أنّ تعليلاتنا السياسيّة تدخل في نطاق الجسد بالقدْر الذي تثيره هذه التعليلات من ردّات فعل بدنيّة شبه خالصة. في هذا السياق، يبدو أنّ بعضهم يمتنع مثلاً عن مخالفة الآراء السياسيّة لبني عشيرته أو قومه، أحياءً كانوا أو أمواتاً، مخافة من أن يفسخوا نوعاً من «عقد عائليّ» ضمنيّ ينصّ على أنّ الهويّة السياسيّة هي شرط من شروط الانتماء إلى هذا الجبّ العائليّ، فيما الذائقة الفنّيّة وخلافها عند هؤلاء قد تتباعد بين فردٍ وآخر. والسلطة هي القدرة على استخدام الوسائل الكفيلة بتحقيق عمل معيّن أو بلوغ هدف معيّن. وهي أيضاً إساءة استخدام هذه الوسائل بفضل الامتياز الذي توفّره بالضبط، من أجل السيطرة على الآخرين بالقوّة الجسديّة و/أو الذهنيّة. فالسلطة تعني إذاً القدرة والسيطرة. ولعلّ ما يميّز السلطة السياسيّة هو النهج الذي تنزلق بموجبه القدرة في اتجاه السيطرة والتسلّط أحيانًا. فالطاغية مثلاً هو مَن أصابه الهذيان ونجح في فرضه على الآخرين، بينما مَن أصابه الهذيان ولم ينجح في فرضه على الآخرين، أُدخِلَ المشفى للعلاج! وعليه، السلطة ههنا هي بمثابة علاج بالقدْر الذي يفقد بفقدانها الطاغية توازنه النفسيّ ويلج نفق «الجنون» المظلم. لذلك، لن يتردّد في وأد ما قد يهدّد سلطته، أو في تصفية مَن تسوّل له نفسه التطاول على هذه السلطة تصفية جسديّة. وليس بعيداً عن هذا الأمر، ما نُقِلَ عن أحد النازيّين قوله: «حين تقع على مسمعي كلمة ثقافة، أشهر مسدّسي».
والطاغية هو أيضاً النرجسيّ الذي يبالغ في تقدير ذاته بالقدْر الذي يتوهّم فيه أنّه على قدْر كبير من الأهميّة بالنسبة إلى الآخر. من هنا حاجته الملحاحة إلى هؤلاء الذين يبقيهم على مقربة منه، ووقوعه من جرّاء ذلك تحت تأثير مَن يودّ التأثير فيهم. ويقابل هذه الحاجة حاجة الآخرين إلى مثال أعلى.
أضف إلى ذلك، أنّ السلطة إغراء. لذلك، لا يتوانى الساعي إلى الفوز بها أو إلى المحافظة عليها عن التماس وسائل الإعلام، ولا سيّما المرئيّة منها، لتلميع صورته وتحويل شخصه إلى نجم إعلاميّ ساطع يهمّه الظهور وتصدّر المجالس. ويتّضح ذلك أكثر ما يتّضح لدى نقل جلسة برلمانيّة على شاشات التلفزة، بحيث تستحيل الديموقراطيّة ديماغوجيّة. وفي الوقت الذي يتطلّع فيه رجل السلطة إلى كسب ودّ الناس، فإنه يخشى إغاظتهم أيضاً وتحوّلهم عنه، فيعمد إلى استقبال أنصاره ببشاشة وجه، حتى إن أطلعوه على طلباتهم التي يصعب عليه تلبيتها، قام وقتذاك بإحالتهم على أحد مساعديه الذي يكون قد أعطاه التعليمات بردّ الطلبات المحرجة. ويحرص رجل السلطة على أن يكون أوّل من يستنكر علانية ما حصل للبعض من سوء، فيدلي بتصريح حازم إلى وسائل الإعلام يستهلّه بالتأكيد أنّه كان أوّل من حذّر منذ أشهر أو منذ سنين من كذا وكذا... وغالباً ما يعوّل على النسيان حين ينتقل من موقف إلى موقف آخر يناقضه. في صدد هذا الأمر، يقول أحدهم إنّ الديموقراطيّة تراهن على فقدان الذاكرة عند المحكومين.
على صعيد آخر، يبدو جليّاً أنّ للرجال الغلبة في ما يتعلّق بممارسة السلطة، التي قد تبدو ذكريّة الطابع، ربّما بسبب القيود التي ترتّبها على النساء فترة الحمل والاهتمام بالأولاد، على الرغم من أنّ السلطة ليست ذكريّة بالطبع. إلاّ أنّ كلّ فريق يعبّر على طريقته عن حاجته إلى السلطة والسيطرة. ففيما يظهر «جنون» المرأة، أكثر ما يظهر، في علاقاتها مع أولادها وقرينها (وغالباً ما يستحيل خضوعها لزوجها إخضاعاً له...)، يظهر «جنون» الرجل في الحياة الاجتماعيّة. أمّا النساء اللواتي يتطلّعن إلى الفوز بالسلطة، فإنهنّ يعتمدن الأنساق الذكريّة، أو قلْ الجانب الذكريّ فيهنّ.
* كاتب لبناني