بولس الخوري *
استعرضت حلقة أمس الوجهين الأول والثاني للفكر العربي الإسلامي من مسألة التراث والحداثة. حلقة اليوم، وهي الثانية والأخيرة، تعرض الوجه الثالث من المسألة وخلاصاتها
أمّا يوسف القرَضاوي، فإنّه يعرض التصوّر الإسلاميّ للدولة في كتابه «بيّنات الحلّ الإسلاميّ» (6)، ويؤكّد في الجزء الرابع «دولة إسلاميّة، لا دولة دينيّة» (ص 165-188)، الفرق بين الدولة الإسلاميّة القائمة على الإسلام، والدولة الدينيّة كما عـــــــــرفها الغرب المسيحيّ في العصر الوسيط، متحاشياً بذلك الخلط بين ما هو إسلاميّ وما هو دينيّ. فهو يقـــــــول إنّ الإسلام أوسع ممّا تعنيه لفظة الدين (ص 169). فـــــــــيـــقول إنّ الدولة الإسلاميّة دولة مدنيّة قائمة على الاختيار والبَيعة والشورى، فيكون المؤلّف قد قصد بذلك أن يبيّن أنّ الدولة الإسلاميّة التي يدعو إلى إقامتها ليست فـــــــيها طـــــــــبقة رجال الدين، وليــــــــست هي تـــــــــــيوقراطيّة كما كان الأمر في مسيحيّة العصر الوسيط، وأنّ دولة كهذه، إذ هي مدنيّة الطابع، تصلح لجميع الناس، على تعدّد أديانهم.
الوجه الثالث هو طابع الإسلام الديموقراطيّ. يكفي في هذا الموضوع التذكير بالمبدأ الإسلاميّ: لا كهنوت في الإسلام. ولمّا كان الكهنوت يعني مجموع رجال الدين، صار المبدأ يعني أنه لا وجود في الإسلام لما يسمّى في المسيحيّة سلطة التعليم تُملي على المسلمين ما عليهم الاعتقاد به، وسلطة الإدارة تملي عليهم ما عليهم القيام به. فالسلطة لله وحده. والمؤمنون جميعاً سواسية أمام كلام الله المنزَل على الرسول والمدوَّن في القرآن. لكن غالباً ما يكون المؤمن عاجزاً بقواه الذاتيّة عن فهم هذا الكلام وعن معرفة كيفية التصرّف بموجب الشريعة القرآنيّة. إذّاك كان على مثل هذا المؤمن أن يجد لنفسه مرشداً روحيّاً عالماً بالشريعة لكونه قد درسها ومارسها. واختيار مجموعة من المؤمنين المرشدَ يجعل هذا الشخص إمام الذين اختاروه، ويفرض عليهم أن يتّبعوه. وبيّن ما في ذلك من ممارسة ديموقراطيّة تميّزت بالاستقلاليّة كما تصوّرها روسّو Rousseau في المجال السياسيّ، وكما تصوّرها كانط Kant في المجال الأخلاقيّ، حيث صار الشخص في آن واضع القانون وخاضعاً له. وتأكيداً لذلك، ثمّة قول متلفز لآية الله السيّد محمّد حسين فضل الله اللبنانيّ، جواباً عن السؤال كيف صار إماماً، قال إنّه لم يجعل نفسه إماماً، بل صار إماماً للذين ارتضوه لهم مرشداً روحيّاً، ففرضوا على أنفسهم أن يأتمروا بتوجيهاته.
هــــذه الأوجه الـــــــثلاثة تدلّ على أنّ قـــــــيَم الإسلام المبدئيّة هي نــــفـــــــسها قـــــــيَم الحداثة الأســــــــاســــــيّة. في هذا المنحى، يطيب لي، وإن لم أكــــــــــن مسلماً، ولأنّي عربيّ، أن أعرب عمّا صــــار إليه اجــــــتــــــهادي (7)، ذلك أنّي، إذ أطلت النظر في مســــــألة المواقف العربيّة الإســــــــــلاميّة من الـــــــــتراث ومن الحداثة ــ ولي في ذلك من المـــــــــؤلّفات ما يقرب العشرة، عدا المقالات ــ ، تهيّأ لي شــكل من التوفيق بين الـــــــــطرفين قد تصحّ تسميته بالحداثة العربــــــــيّة الإسلاميّة. أعـــــــــــني بذلك ثقافةً تكون في آن واحد عربـــــــــيّة إسلاميّة أصيلة وحديثة أصيلة. وقد أصاب المفكّرون المسلمون إذ رفضوا تحديثاً يكون مجرّد تغريب. فهمّهم أن يتمثّلوا من الغرب ما هو إنسانيّ في جوهره. ويـــــــــبدو لي أنّ جوهر التراث إنّما هو الحسّ بالتعالي، وأنّ جوهر الحداثة الغربيّة إنّما هو العقلانيّة. ولمّا كان للتعالي وظيفة نقديّة ــ حيث إنّ الإيمان، لكونه جعل المؤمن مرتبطاً حصراً بالله، حرّر هذا المؤمن من جميع قيود الوضعيّة البشريّة، فجعله ينظر إلى الأمور نظرة الناقد الفاحص ــ صار التلاقي ممكناً بين الإيمان بما هو الحسّ بالتعالي والعـــــــقـــــلانيّة الحديثة في الوظيفة الواحدة، وظـــــــــيفة النقد والتمييز، وإعمالها في جميع مجالات النشاط البشريّ، أي في الوجود البشريّ الفرديّ والجماعيّ.
إذّاك انتفى التباعد بين التراث العربيّ الإسلاميّ والحداثة الغربيّة. إلى هذا، إنّي مدرك ما يفصل بين النظريّة والتطبيق العمليّ، ولكنّي مدرك أيضاً أنه لا تطبيق سويّاً من دون نظريّة صحـيحة ترشده وتهديه إلى الصراط المستقيم.
* كاتب لبناني
(6) ــ «بيّنات الحلّ الإسلاميّ وشبهات العلمانيّين والمتغرّبين»، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1988.
(7) ــ راجع البحث «في سبيل حداثة عربيّة» في كتابي «في سبيل أنسنة الإنسان»، طبعة أولى، بيروت، 1997، ص 206-210، طبعة ثانية، 2006.