عمر كوش *
فتحت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان الباب واسعاً أمام نقاش طاول مفهومي الدولة والمقاومة، ومركّبات وحمولات كل منهما. وأحد أهم أسباب هذا النقاش العديدة هو تمكّن فصيل مقاوم في ظل «دولة ضعيفة» من مواجهة العدو الإسرائيلي وتحقيق الانتصار عليه، فيما لم تتمكن الدول العربية، بمختلف نماذجها، «المتشددة» و«المعتدلة» من الدخول في مواجهة حقيقية مع هذا العدو التاريخي، ولا شك في أنّ هذا الأمر مفارقة كبرى من مفارقات الوضع العربي الممزق.
ويذهب معظم المهتمين بالشأن العام، وبعض السياسيين، إلى المطالبة ببناء الدولة القوية، ويضيفون إليها حمولات تتعلق بامتلاك القدرة والقوة والعدالة والمقاومة... إلخ. ويطاول نقاش بعضهم نماذج الدولة الحديثة التي توضّعت عربياً في شكل متباين كما في النماذج السوري واللبناني والمصري... إلخ، ويسمّون ما لحق فيها من نواقص واختلالات، من مثل ارتهان إرادة أصحاب القرار فيها بإرادة بعض الفئات المذهبية والمافيوية داخلياً، وإرادة القوى المهيمنة والمسيطرة خارجياً، ولا يخفون أملهم في إصلاحها ومطالبهم بتحسين شروط عملها وأدائها.
في المقابل، هنالك من ينحاز إلى خيار المقاومة، بوصفه الخيار المعبّر عن انهيار الثقة بالنموذج المتعيّن للدولة عربياً، الذي يخفي هيمنة سلطة متسلّطة على المجتمع ومقدراته، وهي سلطة لا يهمّ رجالها سوى البقاء في السلطة إلى أطول مدّة ممكنة. ويطمح أصحاب هذا الخيار إلى بناء سلطة أهلية، متحررة من هيمنة سلطة الدولة ومن الهيمنة الخارجية، وقادرة على تلبية مطالب الأوساط الشعبية في المجتمعات العربية التي تخص إنجاز الاستقلال الحافظ للهوية والمحقق للكرامة.
ويمكن القول إن نشأة مفهوم المقاومة ارتبطت بالصراع على الدولة، أو بالأحرى الصراع ضد نموذج الدولة العربية التي لم تحقق تنمية ولا مواطنية، وجاءت محمولة على أنقاض ممارسات المجموعات العسكرية والحزبية الانقلابية التي استولت على السلطة ورفعت راية الوطنية بعد الاستقلال، لكنها ولدت في بعض المواضع في إطار ممانعات متلوّنة بألوان من العصبيات الطائفية والمذهبية والأقوامية ومختلف الانتماءات ما قبل الوطنية، لذلك هنالك من يرى أنها ــ والحال هذه ــ غير قادرة على إعادة بناء مفهوم جديد للوطنية السياسية التي تشكل روح الدولة الدستورية، التي يتساوى فيها الجميع في إطار سياسي موحد ومتجاوز لمختلف الانتماءات والولاءات النسبية والعقائدية والما قبل مدنية.
وتكمن المشكلة في الأقلمة العربية لمفهوم الدولة الحديثة، من حيث إن السلطات الحاكمة أخذت الجانب الأمني منه من دون أي اعتبار للمفاهيم المترابطة مع هذا المفهوم بمعناه الحديث، كالمواطنة والديموقراطية وحقوق الإنسان وتحقيق التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي. وإن أخذها لهذا الجانب كان مرتبطاً بمصالح حزب أو فئة أو جماعة أو أقلية مذهبية أرادت أن تركّب مفهوم تحقيق الأمن، بالمعنى الاستخباري، من أجل ضبط حركة المجتمع ومراقبة حراكه، وتأكيد سيطرتها على المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تؤثر في هدف هذه الفئة أو هذا الحزب المتمثل في المحافظة على البقاء في السلطة.
ولم تتمكن الدولة العربية من إيجاد سلطة منظِّمة للمجتمع، حامية له، وملبية لاحتياجاته ومتطلباته، بل أنتجت سلطة متسلطة على المجتمع، أي على مقدرات البلاد ورقاب العباد، فغاب التفاعل الإيجابي السلمي ما بين الفئات المدنية والأهلية ومختلف الطوائف والقوى الاجتماعية، لذلك بقي المجتمع في حاجة الى الدولة ومنفصل عنها في آن، وخصوصاً في بلدان مثل سوريا، ولبنان، ومصر، وسواها، وفي ظل غياب المؤسسات والتنظيمات المدنية الحاملة للمجتمع والمدافعة عنه.
ويتجسّد مكمن الخطأ في الانفراد بالحكم وعدم تقبّل الرأي الآخر، إذ لا يمكن الوثوق بقدرة التفرد على بناء الدولة وتمتين وحدة المجتمع، وقد أدت ممارسات السلطات الحاكمة في البلدان العربية إلى ضعف المجتمع المدني وتفكّكه وتوزيعه بين جماعات عائلية وقبلية وطائفية، الأمر الذي أدى إلى غياب مشروع الدولة المكتملة، العادلة والحيادية، والقادرة على استقطاب مواطنيها تحت سقف مشروعها الوطني والتنموي. وبدأ هذا المأزق يظهر بوضوح منذ تحوّل الدولة العربية إلى نسختها الشمولية أو التسلّطية، وأدى تفاقمه إلى استمرار العجز عن إيجاد بديل يحول دون الانفصام في انتماء الفرد إلى جماعته الوطنية من جهة، وتوقه إلى أن يكون مواطناً منتمياً إلى دولة يحترمها وتحترمه من جهة أخرى، ونشأت في إثره ازدواجية الدولة والمقاومة، وهي ازدواجية خادعة، من جهة أن الدولة الحديثة التي تجسّد إرادة جملة مواطنيها تتضمن في أساسها مفهوم المقاومة، لكونها تفترض التصدي لأية محاولة تهدف إلى مصادرة هذه الإرادة من طرف أية قوة، داخلية أو خارجية، وهي لا تقوم لها قائمة من غير ضمان حق المقاومة بغية التأكيد والحفاظ على قيم الحرية والمواطنة والسيادة ضد المتربّصين بها.
في المقابل، لا توجد أية شرعية لأي طرف مقاوم إن لم يسهم في بناء دولة تنهض على قيم المواطنة واحترام الدستور، وتصون مختلف الحريات والحقوق للجماعات والأفراد، لأن روح المقاومة تنهض على حماية قوانين الدولة المستمدة من الدستور، ومنطلقها هو تحقيق الحرية وسيادة الشعب في وجه المغتصبين من الداخل والخارج، أي إنها تجسيد لكون الشعب هو مصدر السلطة ومنتجها، كي تكون خير معبّر عن إرادة جملة مواطني المجتمع الذي تكمن وراءه الدولة. وبالتالي، التقابل أو التضاد ما بين مفهومي الدولة والمقاومة هو محض مفتعل إلى أن لحقت النواقص والاختلالات بمهمات الدولة والمقاومة. وهو أمر تحقق عربياً في أكثر من بلد في أيامنا هذه، حيث عملت السلطات الحاكمة في أكثر من بلد على حصر مفهوم المقاومة في ممانعة مشاريع ومخططات القوى الخارجية، وخصوصاً الأميركية والإسرائيلية، واختصرت حمولات المقاومة في العمل على التصدي لها، وغاب عنها أن مهمة التحرر من الهيمنة الخارجية عليها أن تمرّ عبر التحرر من التسلط الداخلي الذي يجرّد الناس من حقهم في الدفاع عن أنفسهم وحقوقهم. وعليه تمّ تغييب المقاومة التي تنشد الحرية والمساواة والعدالة لمصلحة مقاومة مشاريع الهيمنة الخارجية، الأمر الذي أفضى إلى انحياز أصحاب خيار المقاومة إلى طرف الأنظمة الاستبدادية والشمولية، مع أن مفهوم المقاومة أشمل من حصره في التصدي لأهداف قوى الخارج، وتتسع مركّباته لتطاول عملية إعادة بناء مفهومية، سياسياً وقانونياً، على أسس الحرية التي تجمع مختلف قطاعات الشعب ومكوّناته السياسية والدينية والإثنية. لذا ينبغي التنبّه إلى أن الدفاع عن الوطن والمواطن يتجاور مع العمل على تخليصهما من براثن الاستبداد ومختلف العصبويات والانتماءات ما قبل المدنية، وضمان سلوك نهج ديموقراطي قائم على احترام حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم والمساواة في ما بينهم، كي يمكن بلورة استراتيجيا وطنية ترفض الارتهان بالاستراتيجيات الخارجية، وتعمل على إحياء قيم الوطنية، وتصلح لتكون برنامجاً لدولة مختلفة عن النماذج السائدة.
لقد كان المأمول هو الوصول الى الدولة بمعناها الحديث، أي عبر مندرجات العقد الاجتماعي التي تجد أساسها في تحقيق مفاهيم المواطنة والديموقراطية التعاقدية، ذلك أن النظام الأصلح في أي بلد عربي هو ذلك النظام الذي يحفظ التوازن الوطني وكفاءة المؤسسات وتكاملها وتعاونها، ويوفر فاعلية السلطات والتناوب على المسؤولية وتجديد البنى السياسية. وعليه تتحد معالم الطريق إلى الدولة بجملة من المبادئ والمسلمات التي تعتبر أساساً للعيش المشترك، وتتحقق في تجاوز النظام الشمولي أو الفئوي والطوائفي، وذلك بالاستعاضة منه بعقد اجتماعي متوافق عليه ودائم، يوضح أسس الشراكة في الوطن والالتزامات المتبادلة بين جماعاته، شريطة أن يبنى التوافق على عقد اجتماعي على قاعدة المساواة التامة بين المواطنين، ويؤكد توفير هذه المساواة دائماً وفي كل الظروف. وهذا يقتضي التعاقد على أساس سياسي يوفر في شكل ملزم ودائم آلية إنتاج السلطة على قاعدة التوازن الوطني، وبالتالي يجب إلغاء التمثيلات ما قبل المدنية على كل المستويات، وممارسة المسؤوليات في مؤسسات الدولة والسلطة الدستورية والمؤسسات العامة على قاعدة الاستحقاق والمؤهلات من دون تفرقة أو تمييز بين مواطن وآخر. هنا تكمن أهمية طرح صيغة بديلة لإنتاج السلطة الوطنية، التي تشارك فيها مختلف الجماعات الوطنية على قدم المساواة من دون هيمنة جماعة على أخرى.
* كاتب سوري