أمين حطيط *
ارتكزت النظم الديموقراطية المعاصرة وبعد مخاض طويل، على كون الدولة الحديثة أتت نتاج عقد اجتماعي دخل فيه أفراد تنازلوا عما لهم من حقوق طبيعية، لتعود إليهم هذه الحقوق حقوقاً مدنية، «وهو تنازل الكل للكل»، تحميها السلطة التي أنشأتها إرادتهم العامة المشتركة، بموجب قانون يعبّر عن هذه الإرادة، إذ إن القانون كما يصفه روسو: هو التعبير عن الإرادة العامة. أما السلطة التي تضع القانون، وتحكم بموجبه، فينبغي أن تتكوّن من إرادة الجماعة كلها، عملاً بمنطق السيادة الشعبية، حتى يستقيم منطق حكم الشعب لنفسه وإذا أخفقت الجماعة في الوصول الى إجماع على اختيار من يحكمها وباسمها، عُمل برأي الأكثرية الشعبية، التي تختار من يمثّلها ليحكم باسم الشعب، ولذلك اعتد بمبدأ: «كل الشعب يختار كل الممثلين». والشعب عندما يختار من ينوب عنه في ممارسة السلطة، وبالتالي ممارسة السيادة، يفوِّض ولا يتنازل، لأن التنازل الذي حصل إنما تم من الذات الى الذات، أي إن الفرد لم يخسر بتنازله لأنه تنازل لنفسه المشكِّل جزءاً من الكل العام، أما الانتخاب لاختيار السلطة أو الحاكم فإنه تفويض وليس تنازلاً، فالشعب يبقى هو صاحب السيادة، وصاحب الحقوق، والسلطة مفوّضة منه لممارسة هذه السيادة تفويضاً مشروطاً بحفظ حقوق الفرد المدنية وحقوق المجتمع العامة. واذا أخلّت السلطة في واجباتها، كان لا بد من وضع حد لها، لأن السلطة في الأنظمة الديموقراطية مقيّدة، وليست مطلقة، أما الذي يفرض تطبيق القيود على السلطة فإنه يأتي من بعض السلطة ليحدّ البعض الآخر، من هنا قامت نظرية الفصل بين السلطات لأن «السلطة تحدّها السلطة»، فإذا عجزت سلطة عن ذلك عاد الأمر الى الشعب صاحب السيادة الأصلية، والشعب يراقب السلطة، ويحملها على التزام حدود التفويض بوجوه ثلاثة:
الأول: يومي، وهو ما يسمى الرأي العام ويعبّر عنه بوسائل التعبير المألوفة في الصحافة، لذلك سميت الصحافة سلطة.
الثاني: ظرفي طارئ، ويكون بالتعبير عبر صوت الشعب المباشر، ويكون هذا بنزول الشعب الى الشارع، وهذا ما يسمى بالتظاهر، وهذا الحق لا يمكن قانوناً أو تدبيراً أو سلوكاً أن يصادره لأن السلطة بنفسها لا تملك صلاحية القرار، ذلك أن الشعب لم يفوّضها أن تمنعه من التعبير، بل جلّ ما يمكن ان تقوم به السلطة هنا هو تنظيم طريقة التعبير.
الثالث: ويكون دورياً في موسم إعادة تأليف السلطة واختيار الممثلين عبر الانتخاب.
هذه هي الوسائل الديموقراطية الحضارية الحديثة لمحاسبة السلطة ومراقبتها، وعليه لا يكون شرعياً القرار الذي يحرم الشعب حقه في التعبير.
ولو دقّقنا في الوضع اللبناني القائم حالياً في ضوء هذه المبادئ لوجدناه يقدّم نموذجاً سيئاً للعمل الديموقراطي، وهذا ما تظهره الوقائع التالية:
فمن حيث تكوين السلطة، نجد ان الانتخابات تمت في شــــــــكل يحول دون اختيار الأكثرية مـــــــــــمثليها في السلطة، بل تمت بـموجب قانون عطّل الإرادة الشعبية الحـــــــــقـــــــيقية ليحل مكانها نفوذ المال واستغلال العصبيات، فتألّفت أكثرية نيابية لا تعكس الأكثرية الشعبية.
ثــــــــم جاءت المـــــــــمارسة، وكان الفظيع فيها إقدام الأكثرية على ممارسات تستسهل المسّ بالسيادة الوطنية.
فنجد رئيس الوزراء يستدعي عناصر أمن أجانب للعمل في كشف أحداث أمنية جرت على الأرض اللبنانية، متناسياً ان هذا الأمر يحتاج الى قانون، ثم نجد اتفاقات تعقد من هنا وهناك تطيح مبدأ السيادة، كان أخطرها التنازل عن الصلاحية القضائية والأمنية في أكثر من موقع، ولا سلطة تحاسب، والسبب ان فئة واحدة أمسكت بزمام كل السلطات وعطّلت ما لم تستطع الإمساك به، فعطّلت مبدأ «السلطة لا تحدّها إلا السلطة».
ثم أدارت السلطة القائمة ظهرها الى الرأي العام فأمسكت بمعظم الإعلام وسخّرت بعضه وهي بهذه التصرفات ووفقاً لهذه الظروف تكون قد دفعت الشعب الى استعمال حقه في التعبير في الشارع. وهي نفسها لجأت الى الشارع عندما كانت في موقع معارض للسلطة، وتغنّت بإنجازها الشارعي ذاك، الى الحد الذي اعتبرت نفسها فيه وليدة الشارع في 14 آذار 2005، وفاخرت بذلك حتى سمّت نفسها «قوى 14 آذار».
والآن، وبعد الهيمنة الفئوية على السلطة، وتعطيل السلطات الأخرى أو تهميشها، تحاول السلطة القائمة أن تمنع الشعب حقه في التعبير في الشارع، وتحاول التهويل عليه، ملوّحة بالقمع. ولا بد من الالتفات الى مسألة خطرة، وهي أن صدّ الشعب في الشارع لن يكون بسهولة تعطيل المجلس الدستوري أو تجاهل تنظيم الموازنة، وهنا لا بد من القول، وعلى سبيل النصيحة لهذه الحكومة التي تحكم بغير إرادة أكثرية الشعب، إن وجودك من طريق لا يأتلف مع القواعد الديموقراطية، وإن عدم إنصاتك للرأي العام يحمل الشعب على التفكير في النزول الى الشارع، أما من يقول: «بالهوبرة ما حدا بيقدر علينا»، فيردّ عليه بـ«أليس وجودك نفسه هو ثمرة الهوبرة»، وأما من يقول «مكاسبنا لن نتخلى عنها، وسندافع عنها بالقوة»، فنقول له «الديموقراطية تكسب الحقوق لأصحابها، ولا حقوق مكتسبة إن كانت اغتصاباً».
الوضع في لبنان محتقن ولكن الحل بسيط إذا أنصتت الحكومة القائمة الى صوت العقل، واحترمت الإرادة الشعبية العامة، أي إذا احترمت الأسس الديموقراطية، عندها يأتي الحل المريح للجميع، أما إذا كان التعنّت فإن النتيجة لن تكون في مصلحة أحد، وإن أكثر المتضررين سيكون الوطن وهذه السلطة التي تستأثر بقراره خلافاً للأصول... فهل يكون الوعي قبل فوات الأوان؟
* عميد ركن سابق