زياد سعيد
لعل أغرب الأدوار وأدعاها للحيرة، تلك التي يؤديها سمير جعجع، فهو لا يكتفي بما صار إليه من «حرية» مفاجئة لم تخطر له، بل يبدو انه يتطلع إلى ما يفوق ويعلو واقعه الراهن، وفي الأمر بعض المشروعية، وخصوصاً ان الرجل قد أرغم، وحيداً من بين سائر نظرائه، على دفع الثمن ودخول السجن.
الأرجح ان مبعثه على تكبيد نفسه طموح استعادة الدور الفائت، هو حنينه الى الماضي السلطوي الذي كان له، والذي أتاح له في ما مضى، حجز مقعد اللاعب المسيحي الأبرز، قبل ان تهب العواصف، وتجعل منه لاعباً عادياً بين اللاعبين الآخرين.
مسكين سمير جعجع.
لا يستحق الرجل إلا الإنصاف، فالسنوات التي ضاعت في السجن الطويل، أضاعت معها أشياء أخرى ثمينة، من بينها فرص التعلّم الفعلي. الرجل يحاول مستطاعه، لكن للزمن دورته، وقد جاءت هذه المرة كاملة، وما كان قد كان.
الواضح ان سمير جعجع في كل مسيرته المنقضية لم يتعلم شيئاً، فلا هو استطاع إكمال تحصيله العلمي، ولا هو استفاد من خيباته العسكرية، أو إخفاقاته السياسية، التي قادته ومن معه، الى افتتاح مسلسل الهزائم الكبرى. وها هو اليوم، ومن بعد كل تلك الإخفاقات، التي تكاد تختصر كل التجربة الخاصة به، يحاول استئناف المسيرة نفسها، ومن النقطة نفسها، غافلاً عن كمّ ونوع المعطيات والوقائع التي تراكمت، طوال السنين التي تلت سجنه.
إنه ابن اللعنة، وضحيتها في الآن نفسه. وسمير جعجع هو سمير جعجع، لا يستطيع إلا ان يكون نفسه، سمير جعجع اليوم يحاول وسعه، وفي ظنّه ان قول الكلام الكبير يجعل منه كبيراً. سمير جعجع اليوم ضحية لبنانية جديدة، يمكن إضافتها الى الضحايا الذين أوقعتهم طموحات الأدوار الكبيرة، وخصوصاً ان جلّ جهده ينحصر في محاولته تقليد نفسه التي كانت قبل السجن.
في مهرجان شهداء «القوات» في حريصا انتحل صفة ونصّب نفسه خصماً سياسياً، وتلا خطاباً نارياً، وقعد ينتظر من يردّ عليه، ولما لم يحظ بهذه الفرصة، ولم يعره من طالبه بالخصومة أي اهتمام، جعل يلوي خيبته وينتقل الى مستوى أعلى.
ربما كانت مشكلة سمير جعجع الأساسية هي في فقدانه الاعتراف الذي يمكن ان يُكسبه المعنى، فلا الأصدقاء يلتفتون، ولا الخصوم يبالون. إنه في منزلة اللامعنى واللاجدوى. ربما كان ما يؤرقه ويجعله على ما هو عليه، هو فقدانه هذا الاعتراف، فربما للاعتراف وحده ان يجعله يراجع نفسه، ويوفر عليها البذل المجاني.
بسط اليد ليس هو الطريقة الوحيدة للاستجداء، يمكن الصوت العالي والنبرة الحادة أن يكونا أيضاً طريقة للاستجداء، ربما كانت هذه هي حال سمير جعجع والتفسير الأقرب لواقع السلوك السياسي الذي يعتمده.
الأرجح ان المكان اللائق بالحالة المسماة سمير جعجع هو غير المكان الذي يحاول اليوم الوصول إليه، الرفق بالرجل ضروري، ويستدعي ممن يحتفظ في قلبه شيئاً من المودة الصادقة، ان يعمل على إعادة الرجل الى الصفاء الروحي، الذي توفر له بحسب المطران البيسري خلال فترة العقوبة الظالمة.
يتوهم سمير جعجع أن في مقدوره حيازة صفة الخصم السياسي بمجرد حمله مواقف ضدية، معذور هو الرجل، إذ يغيب عنه ان الخصومة مرتبة، يحتاج نيلها الى ما هو حقيقي، والمتاح السياسي والشعبي لجعجع اليوم أقل من اللازم.
لو أن واقع القضاء اللبناني غير هذا القائم، لتحرك فوراً واعتبر الكلام الذي أورده جعجع في المقابلة التلفزيونية الأخيرة وثيقة تؤكد ارتكابه جناية أو جنحة انتحال الصفة.
سمير جعجع واحد من بين لبنانيين كثيرين لا يستحقون فرصة الخصومة، وخصوصاً ان هذه الفرصة تتطلب معرفة ودراية وعلم واسعين أين منها القاموس الفقير.