بولس الخوري *
رأى أهل التراث في الحداثة الغربيّة نوعاً من التحدّي، ذلك أنّ التقدّم العلميّ والتقنيّ الذي تميّزت به الحداثة الغربيّة أنتج حضارةً متقدّمة. فإنسان الحداثة سائر في طريق اكتشاف قوانين تكوين الطبيعة وتطوّرها، وقوانين تكوين المجتمعات البشريّة وتطوّرها، وقوانين تكوّن الشخص البشريّ وتهذيبه، وقوانين صنع التاريخ البشريّ وتسييره. أمّا الشعوب العربيّة، في المقابل، بعدما دخلت في طور الانحطاط، لم تعد هي حاملة مشعل الثقافة في حوض البحر الأبيض المتوسّط، بل أصابها شيء من العقم والجمود، إن في العلوم وإن في التقنيات. فبات العالم العربيّ يعيش على ذكر أمجاده الغابرة، لا ينتج جديداً ولا يخطو خطوةً إلى الأمام. أكمل التاريخ مسيرته، والعالم العربيّ واقف مكانه بلا حراك، حتّى في مجال القيَم الأخلاقيّة والدينيّة، كان الموقف السائد التزام العادات، فكان الناس يبتدعون عادات غالباً ما تخالف روح قيَمهم الثقافيّة والدينيّة، واكتست هذه القيَم الأصيلة بطبقات من العادات سترت حقيقتها، فلم يعد الناس يعرفونها ولا يسلكون بموجبها.
فكان من أهل التراث من خلط بين التراث الأصيل والتقليد الأعمى. فتمسّك بالتقليد ظنّاً منه أنّه كان بذلك وفيّاً لتراثه. وعلى هذا الخلط قام موقف بعض من أهل التراث، هم التقليديّون المتمسّكون بتقاليدهم لاعتقادهم أنّ عاداتهم صورة عن القيَم التراثيّة، وأنّها بالتالي صالحة دوماً في كلّ مكان وزمان. وإن دلّ ذلك على شيء، فإنّه يدلّ على أنّ الناس غالباً ما يرتاحون لما تعوّدوه ويأنفون تكبّد عناء الجهد والتجديد، ولو كان هذا الجهد والتجديد أكثر أمانةً لما تقتضيه القيَم التراثيّة الأصيلة. وقد قال الشاعر: لكلّ امرىءٍ من دهره ما تعوّدا!
إذاً كان موقف هؤلاء التراثيّين التقليديّين موقف الدفاع عن النفس، فقد يصعب على الناس أن يبدّلوا ما هم عليه فيرفضوا ما يبدو أنّه مخالف له. ثمّ عند كثير منهم تحوّل موقف الدفاع وصار موقف التهجّم على الثقافة الغربيّة الحديثة. قالوا إنّها ناقصة، ينقصها ما يحفّز الإنسان إلى الارتفاع عن وضعيّته المنظورة إلى صعيد القيَم وأساس هذه القيَم غير المنظور، أي المطلق الذي تطلق الأديان عليه اسم الله. وقالوا إنّها لا فائدة منها، فهي لم تأت بجديد، من حيث احتوى القرآن والتراث الثقافيّ العربيّ الإسلاميّ على المعارف العلميّة والأفكار والإيديولوجيات الموصوفة بالحديثة، كالديموقراطيّة والاشتراكيّة وحقوق الإنسان وغيرها.
ومن هؤلاء التقليديّين من عدّد مساوئ دعوات الغرب الهدّامة للعقائد والقيَم، والهدّامة للمجتمعات والأمم كالعنصريّة والمادّيّة والعلمانيّة والعالميّة، والهدّامة للنفس والأخلاق كالفرويديّة ونظرتها إلى الجنس والوجوديّة، والهدّامة للفكر والثقافة وهي الدعوة إلى إحياء ما قبل الإسلام والإسرائيليّات، ودعوة التغريب وإحياء الهلّينيّة، والدعوة إلى العامّيّة. ومنهم من عدّد أخطاء الثقافة الغربيّة، أخطاء المنهج في مجال العقائد والدين والفلسفة، وأخطاء التاريخ والحضارة، وأخطاء اللغة والأدب والفنّ، وأخطاء مفاهيم الاجتماع والنفس والتربية. ومنهم من رأى أنّ الفكر الغربيّ قد سادته عوامل أربعة: نظام الاقتصاد القائم على الربا، والقانون الوضعيّ المنفصل عن شرائع الله، والتعليم اللادينيّ المتحرّر من نفوذ الكنيسة، والديموقراطيّة التي تحلّ الإيمان بالدولة محلّ الإيمان بالعقيدة. ولمّا تميّزت الثقافة الغربيّة بالعلمانيّة، قام التقليديّون بتبيين أضرار العلمانيّة، منها أنّ العلمانيّة تُدخل الحضارة في أزمة، ومن مظاهرها فقدان توازن الشخصيّة، وتفكّك الأسرة، وتفتّت المجتمع، وقلب سلّم القيَم، وظهور القوميّات. فمنهم من قال إنّ أعظم البلدان في عصرنا تقدّماً في العلم يشكو من الفراغ الروحيّ والقلق النفسيّ والاضطراب الفكريّ والشعور الدائم بالتفاهة والاكتئاب والضياع. ومن مساوئ العلمانيّة أنّها قامت على فلسفة مادّيّة لادينيّة إلحاديّة قامت عليها الرأسماليّة والشيوعيّة. فالمادّيّة، إذ تستبطن وضعيّة كانط، وتطوّريّة داروين، وجنسانيّة فرويد، واجتماعيّة دوركهايم، واقتصاديّة الرأسماليّة والشيوعيّة، تعني نسبيّة القيَم واللادين والإلحاد. ومنهم من قال إنّ الاتّجاه الاشتراكيّ الثوريّ لا يختلف كثيراً عن الاتّجاه الليبراليّ الديموقراطيّ، فإنّهما يمثّلان تيّاراً واحداً، له منبع واحد، وإن اختلفت قنواته ومجاريه، إنّه تيّار «التغريب» للأمّة الإسلاميّة، وهو تيّار ينبع من أصل مشترك هو «الحضارة الغربيّة» بفلسفتها «المادّيّة» للحياة ونظرتها «النفعيّة» للأخلاق.
ومن التقليديّين من انتقد الوضع القائم للثقافة العربيّة والإسلاميّة، فحاول تنقية التراث الثقافيّ والدينيّ ممّا علق به من شوائب شوّهت وجهه الأصيل. فمنهم من «فتح باب الاجتهاد» مفسحاً بذلك في المجال لتقوم ديناميّة التراث الثقافيّ العربيّ والإسلاميّ بتأصيل العقل العربيّ والدين الإسلاميّ وبصوغهما في صيغة تكون في آن جديدة حديثة ووفيّة للأصل والهويّة. فمثل هؤلاء التقليديّين صاروا أقرب إلى أهل الإصلاح المتمسّكين بالهويّة الثقافيّة الأصيلة والعاملين على تنقيتها من شوائبها وجعلها تبتدع جديداً أصيلاً.
* كاتب لبناني