رياض صوما*
عندما قام القائد فيديل كاسترو بمحاولته الأولى غير الناجحة عام 1935 لتحرير الشعب الكوبي من طغمته العميلة والفاسدة، ودخل السجن على أثرها هو وأخوه راؤول وبقية الناجين من رفاقه، كان من المحتمل أن يعدل عن مشروعه الثوري. ولكن أمثال فيديل لا يتراجعون بسهولة. فأعاد المحاولة مرة ثانية عام 1956 والى جانبه القائد الفذّ تشي غيفارا. وعندما تعرضت المجموعة التي كانا يقودانها الى ما يشبه الإبادة، على أيدي جلاوزة نظام باتيستا المجرم والعميل والألعوبة بيد الاستخبارات الأميركية، كان من المنتظر أن ينتصر اليأس هذه المرة، ولكن الذي انتصر هو الثقة بالشعب والإرادة الفولاذية. فأصرّ فيديل وتشي على تنفيذ مشروعهما الثوري بعزيمة لا تلين، مسترشدين بشعار: «الوطن أو الموت». فانسحبا مع رفاقهم الناجين الى جبال سييرا وواصلا من هناك الكفاح المسلح الذي تكلل بالنجاح ليلة رأس السنة عام 1959، التي شهدت الهجوم المظفّر للثوار الكوبيين على العاصمة هافانا. ولكن الولايات المتحدة واستخباراتها المركزية لم يتحملا خسارة نظامهما الدمية، فباشرتا الإعداد للرد، بالاعتماد على بعض أنصار النظام السابق، شركاء المافيات الأميركية في نهب الشعب الكوبي. فنظمت الاستخبارات المذكورة هجوماً على كوبا انطلاقاً من خليج الخنازير ليل 17 نيسان 1960، ولكن القوات المسلحة الكوبية استطاعت بدعم الشعب صدّ العدوان وأسر المهاجمين. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، تواصل الولايات المتحدة حصارها الاقتصادي لكوبا، من أجل استبدال نظامها الوطني والثوري والمستقبلي، بنظام يشبه أنظمة جمهوريات الموز التابعة لها. ولكن عبثاً تحاول. ولعل أزمة الصواريخ التي اندلعت عام 1962، وكادت تتسبب بمواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كانت ذروة التآمر الاميركي على الثورة الكوبية، ومع ذلك فشلت في زحزحتها عن خياراتها الوطنية. بعدها تابعت كوبا طريق البناء والتقدم، وسط ظروف سياسية واقتصادية صعبة، خفف الدعم السوفياتي، قبل الانهيار، من آثارها السلبية، ولكن لم يعطل تلك الآثار كلياً. ولم تكتف الثورة الكوبية، على رغم الصعوبات المشار إليها، بتحقيق الكثير من النجاحات على صعيد بناء جهاز عسكري قادر على الدفاع عن الثورة وعن الوطن، وبناء جهاز طبي يشهد له عالمياً، وجهاز تعليمي لا يقل كفاءة، وغيرها من الأجهزة الخدمية التي سمحت للشعب الكوبي بتوفير حاجاته في هذه المجالات كافة، وساهمت مرات عديدة في دعم شعوب أخرى. لقدت استقبلت العديد من طلاب الدول النامية وقدمت لهم منحاً لمتابعة دراساتهم الجامعية. وأرسلت طواقمها الطبية الى بلدان عديدة لإسناد القدرات المحلية في هذا المجال. وفي المجال العسكري، ساهم المتطوعون الكوبيون في تقديم العون لعدد من حركات التحرير الوطني التي كانت تواجه تدخلات عدوانية، سواء من القوى الأطلسية مباشرة، أو من عملائها وأتباعها. ولم تكن المنطقة العربية بعيدة عن مبادرات التضامن الأممي التي رافقت تاريخ الثورة الكوبية. فقد تميزت السياسة الكوبية بنهج تضامني ثابت متعدد الأشكال مع نضال كل الشعوب العربية وخاصة الشعبين اللبناني والفلسطيني. كان كل ذلك في مرحلة النهوض الثوري التقدمي الذي شمل العالم بأسره، ولكنه لم يتوقف بعد الانهيار السوفياتي، على رغم ازدياد الصعوبات التي كانت تواجهها منذ انطلاقتها. فقد راهن الاميركيون وأتباعهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، على إضعاف الدولة الكوبية وإنهاك ثورتها من خلال تشديد الحصار وزيادة الضغوط المختلفة عليها، ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل شديدة، فبدل تراجع وهج الثورة الكوبية ومواقعها، حصل العكس تماماً، من حيث شهدت القارة الاميركية اللاتينية بأسرها، بفعل النموذج الكوبي وبفعل تراكم التجارب الثورية لشعوبها، تصاعداً شديداً في العداء للإمبريالية الأميركية وللأنظمة الخاضعة لها، ترجم بسقوط عدد من الأنظمة العميلة، وانتصار قوى وطنية ديموقراطية ذات توجه إصلاحي واشتراكي.
وتشير كل الدلائل الى ان هذا الاتجاه للأحداث سيتواصل، وخاصة مع ازدياد المصاعب والتحديات التي تواجهها السياسات الاميركية، في مختلف مناطق العالم، وخاصة في آسيا. وقد بدأت الأصوات تتردد داخل الولايات المتحدة نفسها، ناقدة استمرار الحصار غير المبرر لكوبا، وداعية إلى رفعه في أقرب وقت ممكن. ولا شك في ان تراجع شعبية جورج بوش والحزب الجمهوري لدى الشعب الأميركي سيساهم عاجلاً أو آجلاً في إسقاط هذا الحصار الاجرامي المتواصل منذ نصف قرن تقريباً، فاذا كان هذا الحصار قد فشل في ليّ ذراع الثورة الكوبية طوال تلك المدة، وقد كانت أقل رسوخاً، وأقل احتضاناً من محيطها الإقليمي والدولي، فإنه سيفشل حتماً في إرغامها على التراجع عن أهدافها وحقوقها المشروعة، وقد باتت محاطة بحلفاء أقوياء في أميركا اللاتينية وفي العالم. فليس سراً ان كوبا تتمتع الآن بدعم البرازيل وفنزويلا وبوليفيا والأرجنتين وتشيلي، ودول أخرى في القارة اللاتينية، إضافة الى دعم الصين وروسيا وكوريا الشمالية وايران ودول أخرى في آسيا وأوروبا، ناهيك عن التضامن الحار الذي تلقاه من كل شعوب العالم وقواها الديموقراطية والتقدمية. وإن إعجاب هذه الشعوب وهذه القوى بالمأثرة الثورية التي أنجزها القائدان التاريخيان فيديل كاسترو وتشي غيفارا ورفاقهم، وصمود كوبا على عتبة الإمبريالية الأميركية، قد حفزا دوماً نضالها ضد هذا العدو المشترك، وهو إعجاب لم يفتر مع مرور الزمن. وسيبقى ما بقيت الثورة الكوبية ثابتة على تحديها غطرسة الأميركيين ونهجهم العدواني. ربما يراهن هؤلاء وأتباعهم حالياً، على اهتزاز وضع الثورة نتيجة تدهور صحة فيديل. ولكنهم سيصابون بالخيبة، كما أُصيبوا في كوبا وفي غيرها. واذا كان جميع أصدقاء الشعب الكوبي يتمنون لقائده الشفاء التام، فإنهم واثقون بأن هذا الشعب المناضل قادر على حماية ثورته وصيانة منجزاته والتقدم لتحقيق المزيد، فبعد شهرين تقريباً، يحتفل الكوبيون بالذكرى السابعة والأربعين لانتصار ثورتهم. إنها ليست فترة طويلة في عمر الشعوب. فثورة كوبا لا تزال شابة. ويتمنى جميع التقدميين والوطنيين والديموقراطيين أن تزداد شباباً، وأن يحتفلوا بعيدها الذهبي والماسي وقد ازدادت قوة ومنعة ورسوخاً، فمن استطاع الصمود نصف قرن في وجه الإمبريالية الاميركية وهي في عز جبروتها، يستطع الصمود أكثر وقد مالت شمس هذه الامبريالية إلى الغياب.
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني.