نظام مارديني *
أكثر الأسئلة إثارة للجدل داخل تركيا في هذه الفترة هي: لماذا لم تكافئ الولايات المتحدة الأميركية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته الأخيرة لواشنطن؟ بل وكيف تسير هذه العلاقات في ضوء وضع إقليمي متفجر ناتج من الاحتلال الاميركي للعراق، ومن تطور قدرات ايران العسكرية، ولا سيما النووية منها؟ ولماذا تزداد شدة الأغلال على حركة تركيا، داخلياً وإقليمياً؟ وأسئلة أخرى لا تقل أهمية عن واقع الأسئلة السابقة ومضمونها.
فاذا كانت محاضرات أردوغان في البيت الأبيض، في تشرين الأول، لم تشف غليل المرشح للرئاسة التركية في ما يخص وضع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، فإنها أيضاً لم تشف غليل الادارة الاميركية من موقف الحكومة التركية في شأن الملف النووي الايراني.
هذا التضارب في توجه الحليفين يعكس الفشل في ايجاد حلول لمسألة حزب العمال الكردستاني، وقد جاءت تصريحات وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري بأن بغداد وواشنطن لن تقاتلا عناصر حزب العمال الكردستاني في شمال العراق لأن الجيشين الاميركي والعراقي مشغولان بالوضع الأمني في المدن العراقية، استكمالاً لتصريح الجنرال الاميركي جوزف رالستون، الذي أكد استبعاد أي عمل عسكري ضد مسلّحي الكردستاني، مشيراً الى ان واشنطن سترسل وفوداً الى العواصم الأوروبية لإقناعها بضرورة تضييق الحصار على نشاط حزب العمال الكردستاني التركي والمنظمات الموالية له في تلك الدول وفعالياتها.
وكرر رالستون، المكلف التنسيق مع أنقرة وبغداد في موضوع «الكردستاني»، وعوده بمساعدة تركيا في حربها على «الكردستاني»، وناشد الأتراك الصبر، خلال لقائه الجنرال التركي أديب باشار المكلف ملف «الكردستاني». إذ رأى باشار ان تركيا لن تتردد في اتخاذ الاجراءات التي تراها ضرورية في حق عناصر الحزب الموجودين شمال العراق.
التحرك الاميركي إذاً ومن جهة النظر التركية بطيء ضعيف ومتردد وليس هذا رأي القوميين أو الاسلاميين فقط بل النخبة العلمانية نفسها. بيد ان الكاتب «سميح ادز» وفي عموده في صحيفة «ميلليت» يوم 21 آب الماضي كتب: ان دور واشنطن لن يتعدى دور الوسيط، فالانفصاليون عليهم أولاً إلقاء السلاح، ثم الجلوس جنباً الى جنب مع الحكومة والدخول في مفاوضات، مشيراً الى ان كثيرين في الادارة الاميركية يريدون حل المسألة الكردية على غرار الحل بين بريطانيا ومنظمة «ايرا» الايرلندية أو اسبانيا و«إيتا».
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فحسب، فطبقاً لما ذهب إليه الكاتب، «على تركيا ومن وجهة النظر الاميركية ان تكون جاهزة لمثل هذه الخطوة المرتقبة، وهذا غير محتمل، ومن ثم فالحوار الاميركي التركي في شأن هذه المسألة سيمتد طويلاً لسبب بسيط هو انه حوار طرشان».
يعلم أردوغان ان هناك متغيراً تمثّل في قبول تركيا المشاركة بقوات عسكرية في لبنان، وهي خطوة أقدمت عليها الحكومة على الرغم من مخاطرها وتداعياتها المحتملة على مستقبل الحزب الحاكم بسبب المعارضة التي لاقتها، وخاصة ان قطاعاً من الرأي العام بات لا يخفي عداءه للولايات المتحدة مقابل احترام «حزب الله» لدرجة دفعت بالكاتب «حسن جلال غوزال» في مقال بصحيفة راديكال في 17 آب الماضي إلى القول: ان شعبية حزب الله داخل تركيا تنافس شعبيته في لبنان، في هذا السياق دعا «جنكيز شاندرا» وهو واحد من المتخصصين الى تجنب التدخل سواء بالمشاركة العسكرية أم بالديبلوماسية.
تسعى الولايات المتحدة خلال حركتها الى تأليف منظومة إقليمية لإنقاذ مخططاتها في الشرق الأوسط الجديد ولن تجد أفضل من تركيا وباكستان، على أمل ألا تكون مضطرة إلى وجود عسكري كثيف في المنطقة، وأنقرة لا تمانع، فضلاً عن ان احتواء ايران وتقليص نفوذها في العراق تطمح إليهما تركيا في الوقت نفسه، ولا سيما ان الاخيرة تدرك ان الفاعلين الأساسيين في الساحة العراقية هما واشنطن وطهران، وهي تعرف ان الأغلال التي تقيد التحرك التركي تتمثل في السياسة الأميركية تجاه المسألة الكردية (وهذا ما يفسر عدم مشاركة تركيا في احتلال العراق) وتزايد الثقل الايراني في الجنوب. ففيما تقود ايران تحالفاً إقليمياً يشمل السلطة الحاكمة في بغداد والنظام السياسي في سوريا و«حزب الله» في لبنان وحركة «حماس» في فلسطين، في مقابل تركيا التي تحتفظ بعلاقات ثنائية جيدة مع مصر والسعودية ولكن من دون ان ترقى هذه العلاقات الى مستوى التحالف الاقليمي. أما على المستوى الدولي فتركيا تستعيض من الثقل الاقليمي بالانخراط في حلف «الناتو» والتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، غير ان ايران لا تمتلك علاقات مع روسيا والصين ترقى الى مستوى علاقات تركيا بالغرب.
بما ان التفاعلات الاقليمية باتت تتصدر التحولات الدولية ما بعد نهاية الحرب الباردة، من حيث باتت تشكل الجزء الأكبر والأهم في هذه التحولات. فعند هذه المسلّمة تتضح حاجة الولايات المتحدة الاميركية الى استراتيجيا فكّ الأغلال عن تركيا، وذلك من خلال سياسات تقيّد التحرك الكردي في شمال العراق وداخل تركيا، عبر إعطاء مساحة أمنية للتحرك التركي داخل العراق. ولكن على تركيا قبل ذلك ان تحدد أولوياتها السياسية والأمنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة...، وأيضاً مع أوروبا بما يتيح لها ان تطالب ببعض الأولويات، وخصوصاً ان محاور التناقض والتصادم في المنظومة الفلسفية والقيمية لكل من أنقرة وطهران، والتقارب الجغرافي والوجود الأميركي في العراق، سوف تعجّل في إيجاد تغييرات جديدة في المنطقة على حساب ايران ودورها الاقليمي ولمصلحة دور إقليمي غير مسبوق لتركيا في الشرق الأوسط.
* كاتب سوري