ماجد عزام *
المرحوم بيريتس، هكذا يصف معظم وزراء حزب العمل ونوابه زعيمهم وزير الدفاع عمير بيريتس الذي تحول خلال عدة شهور فقط من نجم سياسي ساطع سيقود اسرائيل نحو عملية تغيير استراتيجية وشاملة إلى جثة سياسية يعدّ كثيرون الساعات والأيام ليتخلصوا منها.
بيريتس ارتكب آخر أخطائه بالموافقة على البقاء في الحكومة الاسرائيلية على رغم انضمام العنصري أفيغدور ليبرمان إليها مهدراً في الوقت نفسه آخر فرصة لتنفيذ ولو جزء يسير من برنامجه الانتخابي الذي تضمن الوعد القاطع ولكن غير الصادق «لن أجلس في حكومة واحدة مع أفيغدور ليبرمان».
للتذكير فقط فقد كان البرنامج الانتخابي لبيريتس حافلاً على الصعيدين الداخلي والخارجي، فداخلياً تحدث بيريتس عن ثورة اجتماعية شاملة وعن تقليص موازنة الأمن لمصلحة الرفاه والخدمات الاجتماعية ورفع الحد الأدنى للأجور وتحسين أوضاع الشرائح الضعيفة عبر زيادة المخصصات المالية، وخارجياً تحدث بيريتس عن السلام مع الفلسطينيين ورهن خطة الانطواء في الضفة الغربية باستنفاذ الفرص مع السلطة الفلسطينية وتحديداً الرئيس محمود عباس، إضافة إلى مد اليد للدول العربية المجاورة والدعوة إلى استئناف المفاوضات السلمية معها.
من الواضح أن أياً من بنود البرنامج لم يتحقق، والغريب أنه على رغم النتيجة الجيدة نسبياً التي حققها حزب العمل في الانتخابات تحت قيادة بيريتس، بدأ هذا الأخير بارتكاب الأخطاء مباشرة بعد الانتخابات وتحديداً عندما قبل منصب وزير الدفاع بدلاً من أي حقيبة اقتصادية أو اجتماعية، إذ لحس كل وعوده وسال لعابه بمجرد أن عرض عليه أولمرت منصب وزير الدفاع من حيث تبدّت الانتهازية والوصولية. واعتقد بيريتس أن هذا الأمر سيوفر عليه الكثير في مسيرته السياسية وسيقلص المسافة نحو رئاسة الوزراء لأن وجوده في منصب وزير الدفاع على رغم افتقاره إلى أي ماض أمني أو عسكري فرصة لتبوّؤ المنصب السياسي الأهم في إسرائيل، ولتغطية هذا التنازل وهذا النفاق الفج تحدث بيريتس عن ضبط تصرفات الجيش حيال الفلسطينيين وتحدث عن التسهيلات التي سيقدمها لهم وخاصة في حرية حركة البضاعة والأشخاص وحتى عن تغيير مسار الجدار الفاصل بما ينعكس إيجاباً على مناحي الحياة المختلفة بالنسبة إلى الفلسطينيين، وتحدث عن ضبط القادة العسكريين ومنعهم من القيام بأي مغامرة أو تصعيد سواء ضد الفلسطينيين أو الجيران العرب إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث. فقد ابتدأ بيريتس يومه الأول في وزارة الدفاع بالمصادقة على قرار قصف مكان يتجمع فيه أعضاء لجنة المقاومة الشعبية وأنصارها ما أدى إلى استشهاد خمسة فلسطينيين من عائلة واحدة وإصابة قرابة عشرة آخرين، وخلال ستة شهور فقط أي منذ دخول بيريتس إلى وزارة الدفاع زادت عمليات التنكيل بالفلسطينيين وتضاعفت الحواجز في الضفة الغربية لتصل إلى رقم غير مسبوق، أما في غزة وخلال الثلاثة شهور الأخيرة فقد استشهد 400 مواطن وأصيب قرابة ستة آلاف آخرين ناهيك من المجازر التي ارتكبت في الأيام الأولى من حزيران.
وإضافة إلى ذلك، لم يغيّر بيريتس مسار الجدار الفاصل في الضفة الغربية الذي رسم لمصلحة المستوطنين بغرض نهب أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية ومصادرتها، وحتى النقاط الاستيطانية العشوائية التي وعد بيريتس بإزالتها لم يُحرّك أو يفكّك أي حجر فيها بل بالعكس تجري مفاوضات مع المستوطنين في شرعنة معظمها.
غير أن الخطيئة الكبرى لبيريتس التي حولته إلى ميت سريرياً بالمفهوم السياسي هي حرب لبنان التي وافق على شنّها أملاً في تحقيق انتصار سهل وسريع يرفع أسهمه كقائد ويؤهله لقيادة اسرائيل. غير أن الحرب انتهت إلى كارثة وحُمِّلت المسؤولية لبيريتس.
وبعد انقشاع الغبار وتبدّي الكارثة لم يستخلص بيريتس العبر ولم يتحمل المسؤولية بشجاعة وإقدام بل لجأ إلى سياسة الهرب إلى الأمام وتقديم المزيد من التنازلات أملاً في كسب الوقت والاستمرار لأطول فترة ممكنة في التمتّع بمزايا السلطة والزعامة وزيراً للدفاع وزعيماً لحزب العمل، فلم يوافق على مطلب تأليف لجنة تحقيق رسمية إلا متأخراً ولم يستطع أن يفعل شيئاً بعدما أزاح إيهود أولمرت خطة التجميع عن جدول الأعمال ما أفقد الحكومة أي خطة أو أفق سياسي، لا بل إن بيريتس عضو «السلام الآن» سابقاً سمح للجيش بشن عدوان «غيوم الخريف» على قطاع غزة أملاً في حصد انتصار سهل ووهمي وزائف يمسح الصفحة السوداء التي خطّتها حرب لبنان الأخيرة.
وخنوع بيريتس امتد ليطال المسار السوري حيث اكتفى بإطلاق بعض التصريحات والإشارات الداعية إلى استئناف المفاوضات من دون أن يقوم بأي جهد حقيقي وجاد لإجبار أولمرت على التجاوب مع الدعوات السورية للعودة إلى استئناف عملية التسوية من جديد.
أخطاء بيريتس تواصلت بعد حرب لبنان في السياق الداخلي أيضاً فقد وافق على زيادة موازنة الجيش واعتماد مبالغ إضافية له مع علمه أن ذلك سيكون بالتأكيد على حساب الخدمات والتقديمات الاجتماعية التي مثّلت صلب برنامجه الانتخابي وجوهره.
مسيرة التراجع والانكفاء لبيريتس تواصلت مع الموافقة على دخول العنصري أفيغدور ليبرمان إلى الحكومة مقابل حزمة إغراءات قدّمها إيهود أولمرت ولم يمتلك بيريتس الشجاعة السياسية لقول لا حتى بثمن الانسحاب من الحكومة لأنه فهم أن ذلك سيعني إزاحته من زعامة حزب العمل، المنصب الذي بات عملياً أهم وأثمن من كل المواقف الأيديولوجية والسياسية التي تبنّاها خلال حياته، والآن فقد تحول بيريتس إلى خرقة أو جثة ملقاة في الميدان السياسي الاسرائيلي يقوم بركلها كل المارين والساعين في هذا الميدان، وإن زعامته باتت في مهب الريح والانتخابات الداخلية للحزب التي ستجري في أيار المقبل وستشهد حتماً انتخاب زعيم جديد وخاصة ان 1% فقط من الإسرائيلين يرون بيريتس جديراً بتولي منصب رئاسة الوزراء.
حلاوة الروح قد تدفع بيريتس، وعلى رغم أن عمره (الافتراضي) السياسي قد انتهى، إلى استغلال أي أزمة أو خلاف داخل الائتلاف الحاكم للانسحاب ومحاولة تلميع صورته والعودة إلى شعاراته القديمة، غير أن هذا لن يكون تعبيراً إلا عن مزيد من الانتهازية والانحدار وسيؤدي إلى الذهاب إلى انتخابات مبكرة ستودي حتماً بحزب العمل إلى هامش الحياة السياسية في ظل الانزياح المستمر للاسرائيليين نحو اليمين وفي ظل تطرّف الشارع الاسرائيلي وتصلّبه، وخاصة في ملفات السلام مع الفلسطينيين والدول العربية المجاورة.
قد يكون بيريتس ارتكب كل الأخطاء الممكنة وفوّت كل الفرص المتاحة لتطبيق برنامجه، وتصرف بانتهازية ووصولية، غير أن كل ذلك لا يلغي حقيقة أن من الصعوبة بمكان تقبّل الاسرائــــــــيليين أي أجندة اقتصادية واجتماعية وأي أفكار عن ثـــــــورة مدنية لسبب بسيط يتمثل في أن اسرائيل كيان قائم على حد السيف والحرب.
* مدير مكتب شرق المتوسط للصحافة والإعلام