عمرو ناصف *
لا يمكن إلا أن تتملّك المصري حالة من القلق جراء تفشّي ظاهرة التحرش الجنسي التي تجلت بعض وقائعها في حوادث شهدتها شوارع العاصمة في الآونة الأخيرة، وكان من أبشعها واقعة تجريد إحدى الفتيات من ثيابها في الطريق العام، وواقعة مطاردة قطيع من الشباب لعدد من الفتيات في وسط القاهرة والتعدي عليهن باليد وبالقول الفاحش لمدة زادت على نصف ساعة على مرآى ومسمع آلاف المارة ودوريات رجال الأمن الذين لم يحرّكوا ساكناً!!
الإحساس يتكثف مع متابعة مناقشة هاتين الحادثتين وغيرهما إعلامياً، فأعداد الشكاوى والبلاغات والإحصاءات تؤكد أننا في صدد (ظاهرة) بالفعل، ليس فـقط لأن الهوس الجنسي الناتج عن مثلث (الفقر والكبت والاستفزاز) هو عنوان الظاهرة، ولكن لأن الأبعد والأخطر من ذلك، هو تخلّي الشارع المصري عن خاصية (الردع الاجتماعي) وأحياناً العقاب الاجتماعي، تلك الخاصية التي كانت تجسد قيم التعاون والتكافل والمروءة والشهامة والنجدة، هذا التخلي الذي كان من المفترض أن يدرس المعنيون أسبابه، فاكتفوا فقط بالإشارة إلى أن غيابه، إضافة إلى اهتمام أجهزة الأمن بأمور أخرى يراها النظام السياسي أشد خطورة، مكّنا الرعاع (على حد وصف بعض المحللين) من الانفلات في الشارع.
والمدهــــــش أن المــــــــــتابعات المكثفة التي أجرتها وســــــــــائل الإعلام المصرية راحت تنـــــــــــاقش بالدرجة الأولى مـــــــــــــســــــــــؤولية الفتاة أو المرأة (الطرف المجني عليه) عــــــــن هذه الظاهرة، حتى إن العديد من وسائل الإعلام لجأت في آخر المطـــــــاف إلى (الاستفتاءات) الجماهيرية التي حمّلت نتائجها المسؤولية أيضاً للمجني عليهن بنسب تراوحت بين 70% و75%.
لقد أجمع من انبروا لمناقشة الظاهرة على أنها غريبة وشاذة على المجتمع المصري، لكنهم تجنّبوا مناقشة أسباب التحوّل أو التغيّر.
هنا يبدو أن الإجابة لا بد من أن تنطلق من رصد تاريخ انقلاب ما وظروفه، وربما عدة انقلابات آلت بالحال إلى ما نحن فيه، ومع الاحتفاظ بحق المناقشة السياسية والاقتصادية للظاهرة، فلا مانع من البدء بالمعيار الديني الذي ينطلق منه كثيرون للمناقشة:
إن طرفي معادلة المقارنة هما مصر اليوم ومصر التي كانت، مصر اليوم التي تعد فيها المساجد والجوامع والزوايا بعشرات الآلاف، وتتعدى فيها نسبة المحجبات 95%، وتمثل فيها القوى والتنظيمات الإسلامية عصب الحركة السياسية، وتنتشر المدارس الدينية في كل محافظاتها وأحيائها، أما مصر التي كانت، فكان مجتمعها يوصف بالمتدين على رغم خلوّه من معظم أشكال التعصب والتشدد، وعلى رغم شيوع التوجهات الناصرية والماركسية ومن قبلها الوطنية الليبرالية.
المقارنة هي بين مصر اليوم التي حوّل فيها الخطاب الديني السلفي المرأة إلى عورة بالمطلق ويحذر بعضه من عواقب اختلاء الأخ بأخته والابن بأمه، ويعارض خروج المرأة إلى العمل ويطالب بإلزامها البيوت، أما مصر التي كانت فهي التي كان مجتمعها يوصف بالمحافظ والمتدين على رغم وجود المرأة في ميادين العمل والقيادة بدءاً بالحقول الزراعية والصيد، ووصولاً إلى البرلمان والحكومة، ومروراً بالمشاركة الفعالة في العديد من الأنشطة السياسية وقيادة التظاهرات كما كان على سبيل المثال في ثورة 1919، ناهيك باعتلاء المرأة مقاعد الحكم.
المقارنة هي بين مصر اليوم التي يسيطر فيها خطاب ديني جاء إما من مجتمعات كان المسلمون فيها أقلية مقهورة، وإما من مجتمعات قاهرة كان القهر فيها هو سيد الموقف وصاحب الكلمة الفصل، وكانت تعاني ولا تزال إلى حد كبير أمراض الانغلاق والأحادية، وتعاني أضعاف ما كانت تعانيه مصر من أعراض الجهل والتخلف، وأما مصر المبكي عليها فكان علماء الدين فيها يمثلون السواد الأعظم في قوائم المجتهدين والمشرعين والمفتين.
إن هذه الأمثلة والمقارنات وغيرها تأخذنا إلى انقلاب ديني حقيقي عبث بكل ما هو مستقر، فلم يعصف فقط بالمنظومة الأخلاقية الناظمة للعلاقات بين الذكر والأنثى، ولكنه عصف أيضاً بالتعايش والعلاقة التي كانت (إلى حد بعيد) طبيعية بين المصري المسلم والمصري المسيحي، وها هو يحضّر مصر اليوم للعصف المذهبي.
القضية بذلك قد تكون في نمط التدين وشكله، وفي الظروف التي حوّلت الدين في مصر من ثورة على التخلف والاستعمار والظلم، إلى ثورة على المرأة واليسار والقومية والمسيحيين... ومن هنا لن يكون من باب المغامرة أبداً أن نقترح تأريخاً للأزمة يتزامن وتغلغل الطبعة الوهابية من الإسلام إلى مصر في توقيت كان يشهد تحولات سياسية واقتصادية كبيرة وخطيرة في مصر، ما أدى إلى السلبية التي ترعب المراقبين.
إن أثر حوادث التحرش الجنسي على المجتمع شديد، ويعكس حالة من الرعب لأن الشرف بمعناه الكلاسيكي يحتل أعلى مراتب المنظومة الاجتماعية الأخلاقية، ومع ذلك فليس من باب التبسيط، الادعاء بأن الوجه الأقل حدة وخطورة في الظاهرة هو حوادث التحرش الجنسي على رغم بشاعتها، لأننا إذا أمعنا النظر فسوف نجد أن دائرة التحرش أوسع من ذلك ولا تقف عند حدود (البلطجة والسلب والسرقة بالإكراه وبعض حوادث القتل) ولكنها تتعدى ذلك إلى ما هو أخطر وأبشع، إذ جاوزت نطاق العتبة ووسط المدينة ومصر كلها لتصيب الأمة في مقتل، أما القاسم المشترك بين التحرش الجنسي والتحرش بالأمة، بل التحرش بالدين نفسه (التطاول على الإسلام وعلى رسوله)، فهو صمت الأشهاد وعجزهم. والمدهش أن هذه السلبية هي ثمرة التعاون الوثيق بين السلفيين الوهابيين والقائمين على الحكم في مصر منذ بدأ التحالف بينهما في منتصف السبعينيات.
فمنذ تلاقت رغبة السلفيين الوهابيين في مصر ونظام السادات، اتفق الطرفان على أهمية كسر شوكة الناصريين واليساريين وفض الجماهير من حولهم، ومع بداية إعلان السادات دولة العلم والإيمان، راح يخطو بمصر أولى خطواتها على طريق الأنانية والسلبية، وذلك بتغيير اسم الدولة، من (الجمهورية العربية المتحدة) إلى (جمهورية مصر العربية) فقدم له السلفيون حينها واحدة من أكبر خدماتهم، فقاموا بالتنظير لذلك دينياً بالتهجم على القومية العربية وتكفير من يؤمنون بها، وحذروا الناس من خطر الناصريين واليساريين الملحدين ومن الأفكار الاشتراكية التي تسعى إلى هدم الدين، وكانوا يروّجون لفكرة تسامح الإسلام مع الرأسمالية، لأنها في رأيهم، الأقرب إلى الدين وإلى الله الذي رفع الناس فوق بعضهم درجات، وراحوا يزرعون الرعب في نفوس الناس بتحذيرهم من مغبة الانجرار خلف من يسمون أنفسهم التقدميين الذين يدعونهم إلى الاعتراض على ما يقضي الله ويقدّر لعباده وامتحانه إيمانهم بالعوز والفقر والحاجة.
وكما غضّ السادات الطرف عن الأفكار الوهابية الوافدة، قابله حملة هذه الأفكار بغض الطرف عن ميله إلى الغرب، بل لم يتوانوا عن تبرير ذلك بأن الروس كفرة، بينما الأميركيون أهل كتاب (في الوقت نفسه الذي كانوا يعتبرون فيه أن المسيحيين المصريين أعداء يجب إخضاعهم تماماً)، ووصل تغاضيهم عن أفكار السادات مبلغاً بصمتهم على شعار (مصر أولاً) ثم بلغ التغاضي أقصى درجاته بتبريرهم دينياً مبادرته إلى الصلح مع إسرائيل وإبرامه معاهدة كامب ديفيد التي مهدت لخطوة تالية ستسعى إلى ضرب فلسفة المجتمع وزرع جرثومة السلبية والأنانية في أوساط المصريين.
لقد بدأت تلك الخطوة عملياً بسياسة الانفتاح الاقتصادي التي أوجدت رفاهية مصطنعة ومؤقتة في مصر، كان عمادها المال الآتي من الولايات المتحدة في شكل دعم وهبات أو في صورة ديون، في وقت كانت فيه العلاقات المصرية العربية تعبر إلى أشد أنفاقها حلكة، أما التفسير السياسي الرسمي الذي نقل إلى الناس فكان باختصار: البعد عن فلسطين والعرب غنيمة، ولم يجد أنور السادات غضاضة في إعلان مقولته الشهيرة: (من لن يثـرى في عهدي فلا يحلمن بالثروة بعد ذلك).
لقد طغت على قاموس المصري اليومي عبارات أو بمعنى أصح قيم (الحداقة والشطارة والفهلوة وتفتيح المخ) وكلها مرادفات للكسب غير المشروع. وهكذا أُدخل المصري في سباق شديد القسوة، وكان الصراع ضارياً، تارة بين المصري وذاته دونما أن يمنح فرصاً حقيقية لاكتشاف قدراته الحقيقية، وتارة بينه وبين الآخرين في محيطه وربما خارج محيطه، فعليه أن يصل قبل الجميع، لأنه (على الأقل من وجهة نظره) الأقدر والأحق والأذكى، ولا بأس إذا كان الوصول من خلال إفشال أولئك الآخرين، وربما أيضاً على أشلائهم.
أنهى النظام السياسي المصري عهود المشاريع القومية الكبرى (السد العالي وتأميم القناة والتوجه إلى التصنيع الثقيل) التي كانت في أحد أبعادها تمثّل رابطاً يجمع أغلبية المصريين ويشعرهم بأنهم بناة عهد جديد، وفي الوقت نفسه كانت الحملة على القطاع العام تدشن تمهيداً لسياسة الخصخصة، وهنا بدأت تشيع في مصر دعوات (تفجير الطاقات الشخصية) و (توظيف القدرات الخاصة) و (الاستفادة من المواهب المدفونة)، وعلى رغم ما يبدو من نزاهة في هذه الشعارات، لم تكن في واقع الأمر إلا التفافات على ثقافات (أنا ومن بعدي الطوفان) و (خليك في حالك) التي وجدت الفرصة السانحة للانتشار من دون تورية أو مواربة، وذلك من خلال جولة جديدة من الإلحاح السياسي والإعلامي لتشويه فكرة القطاع العام، بصرف النظر عن المؤسسات المتعثرة فيه، فوُصف القطاع العام بأنه في حد ذاته قاتل للمبادرات وللقدرات الفردية، ومقبرة للنوابغ والعـــــــــباقرة، فما حدث إذاً أن الحكم وفي معرض انحيازه لاقتصاد السوق، راح يطلق الرصاص على فلــــــــسفة القطاع العام فضرب في مقتل مبدأ التعاون والتكافل والتضامن.
ومع بيع القطاع العام وتعويض العاملين، اجتاح مصر طوفان البحث عن المشاريع التي حلم بها الحاصلون على التعويضات، ثم بدأت مرحلة دعم المشاريع الخاصة بمبالغ ضئيلة وُظِّفت في معظمها إما في مشاريع فاشلة وإما شديدة التواضع، ومع ذلك تواصلت موجات المغريات التي جسدها نظام التقاعد المبكر لقاء مكافأة مالية، والتي تنهي ارتباط العاملين بمؤسساتهم، كما تنهي التزام الدولة تجاههم. لقد نُسف الارتباط بالمؤسسات الجامعة، وفُكِّكت الروابط بين تقدم الدولة ورفاهية العاملين في مؤسساتها، وشُوِّهت العلاقة بين العامل وأداة الانتاج. أصبح حلم الساعين إلى الثراء والواقعين في شراك التبشير به مرتبطاً بتعثّر أدوات الإنتاج المشتركة، بتشويهها، أو حتى بتدميرها، وقد طعن مبدأ الشراكة في العمل والرزق والحياة وفي المصير، ولم يعد هنالك من موانع دينية أو أخلاقية أو مهنية إذا كانت فرص الثراء قائمة على قطع أرزاق وتشريد عشرات الآلاف من المبدئيين والواقعيين أو القانعين بأن فرصتهم هي فقط في استمرار مؤسساتهم العامة، بل لا مانع مطلقاً إذا كان الحلم يمر فوق جثثهم.
ومع ذلك تستمر سياسة إغراء المصريين بالمشاريع الخاصة والحكايات الأسطورية عن أصحاب الثروات الذين حصلوا على الفرصة. وها هي الدولة تمنح عشرات الآلاف من الفرص، وشيئاً فشيئاً يتضخّم الحلم بالثراء، حتى أصبح رجل المال والأعمال هو القدوة والمثل بغض النظر عن مصدر ثروته.
اللعبة كلها تدور في الخيال، أما الواقع فمختلف تماماً، فمحصلة كل ذلك كانت خيبة الأمل والإحباط الذي أصاب الغالبية العظمى من الحالمين بالثراء والثروة، فالفقر هو الحقيقة المؤكدة في وقت بات فيه الاستفزاز السلعي والاستهلاكي يحاصر المقهورين من كل فج وصوب.
إن الانقلاب السياسي والاقتصادي واستقالة الدولة من التزاماتها وشيوع فكرة (الحكومة لن تفعل كل شيء) لم تؤد فقط إلى رسوخ قناعة باعتماد كل فرد على قدراته في العيش على حد الكفاف أو في تحقيق حلم الثروة، وفي الدفاع عن نفسه وفي الحصول على حقوقه أو ما يعتقد أو يقرر أنها حقوقه، لكنها أدت أيضاً إلى ضياع هيبة الدولة وأجهزتها بما فيها الأمن الذي كان حاضراً وشاهداً على واقعة وسط المدينة ولم يحرك ساكناً، كذلك الأفكار التي شوهت وضربت في عقول الناس قيم النجدة والمروءة والشهامة شملت دور الدولة ودور الفرد، وعليه فالسلبيون ومن يلتزمون الصمت حيال اغتصاب الحق العربي والأرض واغتصاب آلاف الفتيات في كل أرض عربية مستباحة، هم أنفسهم من يصمتون عن التحرش بفتاة في الشارع. وإن أجهزة ووسائل قمع كل من تسوِّل له نفسه الاعتراض أو التظاهر على سياسات الخصخصة وبيع القطاع العام والتقاعد المبكر هي نفسها التي تقمع كل وأي محاولة للاعتراض أو التظاهر تضامناً مع فلسطين أو العراق أو لبنان أو أي قطر عربي آخر؟
القضية وحدة واحدة، وتنوّع تجلياتها لا يفصل أبداً بينها ولا يشتّتها، أو هكذا نقترح أن نناقش لنجيب عن سؤال: ما الذي حدث لمصر وللمصريين؟
* إعلامي مصري