قاسم عز الدين *
بادر الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني خالد حداده إلى دعوة أهل اليسار للتجمع واقترح ثلاثة مبادئ سياسية عامة وصيغة تنظيمية متحررة من القيود الحزبية وسرعان ما تبين ان جلّ المرشحين للتجمع كانوا في الحزب وفي فضائه أو في تجمعات عديدة سابقة جمعت الحزب مراراً «بالقوى الوطنية والتقدمية»، لكن الحزب يراهن على رغم فشل تلك التجارب على الحرية التنظيمية لجذب الشباب وقوى ديموقراطية جديدة من دون ان يقرن هذه المراهنة بتحليل طبيعة هذا التجمع المنشود أو وظيفته السياسية، فينطلق من مسلمة بدور طبيعي مفترض لأهل اليسار المجتمع من غير برهان بل أكثر من ذلك يعوّل عليه في تجاوز «مأزق القوى الطائفية» وهو تعويل من غير سند منطقي وسياسي. والحال أن الحزب المتجدد بخيارات المقاومة يحنّ الى مرحلة يسارية ماضية هي أقرب لصيغة عود على بدء، وإذا كان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين على قول أهل العلم فإن هذا المؤمن لا يغيّر معتقداته وعاداته بسهولة.
والحال أثبت الحزب دينامية غير مسبوقة في الأحزاب الشيوعية وأهل اليسار، لكن لم تصل هذه الدينامية الى المعتقدات والرؤية السياسية وثقافة التجميع إذ انشغل بالأزمة الحزبية الممتدة التي عبّرت عن نهاية مرحلة سياسية تراجيدية، فعالجها تنظيمياً من دون تقويم جدي لسياسات الحزب وأهل اليسار في تلك المرحلة، من حيث لم يُعِد قراءة تجربة اليسار و«الحركة الوطنية»، ولم يبحث طبيعة التحولات في لبنان والمنطقة العربية، إثر التحولات التاريخية في الرأسمالية العالمية، ولم يقارب حركة المناهضة والعولمة البديلة، ولم يتبنِّ أدوات عمل وأدوات تحليل ملائمة لطبيعة التناقضات الجديدة فظل الحزب يحتفظ بثقافة سياسية ماضوية (ولا سيما الفصل بين العمل المطلبي والعمل السياسي والعمل الجبهوي والعمل الاجتماعي)، كأنما التحولات النيوليبرالية المعولمة من واشنطن الى بيروت هي مجرد كم إضافي الى تناقضات المرحلة السالفة وهي بغير حال. فقد ألغت هذه التحولات الاستقلال السياسي للدول الضعيفة الناشئة بإزالة الاستعمار، وغيّرت طبيعة الانقسامات الوطنية والسياسية والاجتماعية وغيّرت طبيعة مقاربتها، وعممت الإقصاء والتهميش وأنتجت تناقضات جديدة هي في لبنان أعقد من اختصارها في ثنائيات: طائفي/علماني، يمين/يسار.
في إثر التحولات لم يعد تقسيم الحصص الطائفية علّة نظام يمكن إصلاحه بضغط سياسي علماني بل بات تعبيراً عن فراغ دولة احتلته سياسات النيوليبرالية المعولمة ولا يمكن استعادته بغير سياسات بديلة تحملها قوى اجتماعية في مسار إعادة البناء وتغيير موازين القوى. فالطبقة السياسية الحاكمة لم تعد تحكم ولا تقرر السياسات بل باتت مربوطة (شأنها شأن البلدان الضعيفة الأخرى) بسياسات منظمة التجارة العالمية والشراكة الأوروبية وحرية السوق وهي بدورها فصل في ملف متكامل يشمل السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية وأشكال الادارة الذاتية. فالطبقة السياسية الحاكمة تشترك في إدارة سياسات التهميش وإلغاء مشروع الدولة والاستقلال السياسي وهي تتقاسم عائدات هذه المشاركة بتوزيع الريع بين الطوائف ولكن لا يفضي تغيير أشكال اللعبة السياسية الى تغيير السياسات التي ترتكز عليها.
فهو تغيير دونه صعوبات جمة في تحديد الخيارات السياسية وآليات التنفيذ إذ يسهل الاعتراض والاحتجاج المحق، ولكن تغيير السياسات ليس بالسهولة نفسها وليس غياب البرامج السياسية المعارضة مجرد مصادفة كما ان منحى التجميع وإطلاق العموميات البديهية ليس مصادفة أخرى، والحالة هذه تفضي مبادرة الحزب الشيوعي إلى تجميع اليسار الى وقف دينامية الحزب المتجددة بخيارات المقاومة، إذ هي تمسّ أولاً قوى سياسية مناوئة لتوزيع الحصص الطائفية أو مناوئة لبعض خيارات الطبقة السياسية من دون ان تكون هذه القوى بالضرورة مناهضة للنيوليبرالية باحثة عن بدائل سياسية لها، وتلغي ثانياً دينامية الحزب في العمل المشترك على بلورة سياسات بديلة مع القوى الاجتماعية والقوى المناهضة وتوجِّه سياسة الحزب وجهة أخرى. ففي واقع الأمر ان قوى المناهضة في لبنان أوسع وأضخم من استيعابها في تجمع لليسار، إذ هي في المقاومة المنتصرة على الحرب الاميركية ــ الاسرائيلية على رغم أيديولوجيتها الدينية، فحركة المناهضة الشعبية في أميركا اللاتينية تبنّت أيديولوجيا لاهوت التحرير ولم تخسّها في مناهضة النيوليبرالية بل مناهضة الامبريالية. هي أيضاً في التيار الجمهوري الذي يشبه جلّ الحركات المناهضة الداعية إلى دور الدولة في تقرير السياسيات.
هي كذلك في مجموعات شتى بين اليسار والعلمانيين وجمعيات المجتمع المدني لكنها أولاً وأخيراً في الفئات الاجتماعية الواسعة المتضررة من التهميش والسياسات النيوليبرالية ولا ندري بأي منطق سياسي يُستغنى عنها. لكن هذه القوى تناهض بديناميات خاصة بكل منها، تفكر بالتجميع والتحالف والتنسيق ولا تفكر في إنشاء دينامية مشتركة أو العمل على بلورة سياسات بديلة. وقد أثبتت التجارب الحديثة ان الاطار الملائم لإنشاء دينامية مشتركة هو المنتدى الاجتماعي لا صيغ التجمعات والتحالفات. فالمنتدى يجمع كل الطاقات من مزارعين وعاطلين من العمل وأحزاب ونقابات وتيارات فكرية ومدنية ولكن أيضاً الخبراء والبلديات والنواب في سبيل تنسيق آليات العمل وآليات التغيير. يحفظ المنتدى استقلالية كل طرف وحريته التامة لكنه ينقلها من صيغة الاحتجاج الى صيغة المساهمة في إعادة البناء وتحمّل المسؤولية بل إنشاء دينامية تتداخل فيها مجمل الحقوق وتطول السياسات الداخلية والخارجية. وفي أغلب الظن ان انشاء منتدى اجتماعي لا يقوم من دون مبادرة الحزب الشيوعي وأهل اليسار، ولكن صعوبة إنشاء منتدى يقدّرها الحزب الشيوعي وحده، ولعلها مرهونة بقناعة في ان صيغة التجمعات والتحالفات باتت قاتلة للدينامية السياسية والاجتماعية وان بعض أهل اليسار يسبح في فضاء معاكس لتيار المناهضة.
* كاتب لبناني