على مستوى الحياة البشرية. وإذا كانت الفلسفة في العالم الغربي قد تراجعت نتيجة التقدم في المجالات الأخرى المنافسة لها، فإن السؤال يبدو ضرورياً عن أسباب خواء العالم العربي فلسفياً في وقت لا يشهد فيه هذا العالم أي تقدم في أي من المجالات الأخرى المنافسة للفلسفة؟ هذه النقاط وغيرها تحاول «ساحة رأي» مقاربتها تزامناً مع «اليوم العالمي للفلسفة».
إيلي نجم *

يبدو أنّ الناس عندنا وفي العالم لا يهتمّون بالسؤال الفلسفيّ. بل إنّ البعض يحتقرون ويحقّرون ما يمتّ بصلة إلى فعل التفلسف، حتّى إذا خطرَ لك وقلتَ لهم إنّ الفلاسفة هم في خدمة الناس، جميع الناس، بحسب الفيلسوف إدمونت هوسّرل، ارتسمت على وجوههم علامات الشفقة والسُخر.
أذكرُ أنّني استُقْبِلتُ ذات يوم كأنّي سليل عرقٍ انقرض أو على وشك. ولمّا كنتُ أعملُ في حقل الفلسفة منذ أكثر من ربع قرن، قراءةً وتدريساً ثمّ كتابةً، فإنّي أُسأَل مراراً هل أنا باقٍ على دين الآباء والأجداد، وهل عندي أصدقاء، وهل متأهّل وعندي أولاد، ولماذا أكتب ولِمَنْ، وهل مَن يفهم... إلى ما هنالك من أسئلة تجعل غير الشغوف بالفلسفة يشعر بالحياء والحرج. وحين أُسأَلُ عن عملي، لا أقول إنّي أعمل في مجال الفلسفة، كما يعمل البعض في مجال النجارة أو التجارة أو الطبّ أو الشعر... أقول إنّي أكتب. والحقّ أنّي أشعر لاحقاً ببعض المرارة، المرارة التي ربّما عرفها التلميذ بطرس حين أنكرَ سيّده...
وأذكرُ أيضاً أنّه طُلِبَ إليَّ، في المؤسّسة التربويّة حيث أعمل، أن أحاضر في التعليم والتربية. فرحتُ على عادتي أبحث في هذين المفهومين، حتّى لمّا اعتقدتُ أنّي نجحتُ في مقاربتهما فلسفيّاً، أَطلعتُ الزملاء على ما توصّلتُ إليه. فكان أن مازحني أحدهم قائلاً إنّه كان يفهم ماذا يعني أن نعلّم ونربّي. أمّا الآن، وبعد أن استمعَ إلى ما قلتُ، فإنّه لم يعد يفهم شيئًا البتّة!
إلاّ أنّ أخطر ما في الأمر، هو تفاخر بعض الناس عندنا بعدائهم للفلسفة وعزمهم على شطبها من دائرة المعارف التي ينبغي نقلها إلى الخَلَف. وحجّتهم أنّ الغزالي أعلن، في نهاية القرن الحادي عشر، من موقع دينيّ، «تهافت الفلاسفة» وبطلان الفلسفة... ويضيف آخرون أنّ كارل ماركس عاب على الفلاسفة «تأويل» العالم فيما المقصود «تحويله» من أجل رفع الظلم وإقامة العدل، وأنّ مارتن هايدغر أعلن، في النصف الثاني من القرن الماضي، من موقع فكريّ، وصول الفلسفة إلى نهاياتها.
وقد ردّ ابن رشد على الغزالي في «تهافت التهافت»، واستخدم دليلاً كان أرسطو قد اعتمده ومفاده أنّ الغزالي توسّل بالاستدلال الفلسفيّ لتقويض الفلسفة، من حيث إنّ نجاحه في تقويضها يعني إعادة الاعتبار إليها، فيما يعني فشله أنّها ما زالت على قدْرها. أمّا بالنسبة إلى هايدغر، فإنّ إعلانه «نهاية الفلسفة» قد أمدّها بدمٍ جديد وفتح لنا، قولاً وتفكّراً وعملاً، دروباً دَرَّبنا على سلوكها (وإن كانت هذه «الدروب» لم «تفضِ» بَعد «إلى أيّ مكان»)، ووسّع آفاقاً جابها بعضنا، فاستفاقَ من «سبات دوغمائي»، على غرار ما كان قد فعله الفيلسوف دافيد هيوم بإيمّانويل كانط.
والحقّ أنّ الفلسفة نظام معرفيّ له أصوله وتاريخه و«طقوسه». وهو يعمل على زعزعة أركان الثقافة (وههنا الجانب النقديّ الملازم للفلسفة) من طريق دفع الناس إلى معاودة النظر في القيم الثقافيّة واستنباط صيغ جديدة تخدم على نحوٍ أفضل «غايات» الحياة و«أغراضها». فالحياة «التمست» العقل وسائر المَلَكات الإنسانيّة و«توسّطتها» لتبقى وتستمرّ، وتتطوّر وترتقي. إلاّ أنّه سرعان ما ارتدّ ذلك العقل وهذه المَلَكات على الحياة لتسجنها في الصيغ والتشكيلات التي كانت قد تجلّت فيها، وتحول بينها وبين ابتداع بنى جديدة. في هذا السياق، يبدو أنّ الأمر الذي لازمَ الثقافات البشريّة بعامّة وهدّدها في آنٍ واحد كان ولمّا يزل ادّعاءها الإطلاقيّة والكلّيّة. أستدلُّ على ما أذهب إليه بقيام هذه الثقافات بإبعاد ما غايرها وخالفها من ثقافات، واستبعاده من دائرة ما هو إنسانيّ، وإقصائه من دائرة ما هو عقليّ، وإلحاقه تالياً بما هو حيوانيّ! وعلى هذا النحو، راح اليونان ينعتون الشعوب غير اليونانيّة بالبربريّة. وكذلك فعل الرومان من بعدهم، ومن ثمّ المسيحيّون. أمّا العرب، فقد نعتوا الشعوب غير العربيّة وبخاصّة الفرس بـ«الأعجميّة»، علماً أنّ هذه المفردة اشتُقّت من جذر (عَ جَ مَ)، ومنه أيضاً مفردة العجماء أي البهيمة. وأخيراً وليس آخراً، فإنّ الثقافة الغربيّة الحديثة كانت قد وصفت الشعوب التي استعمرتها (أو بالأحرى استعبدتها) بالشعوب الطبيعيّة (Naturvölker) أو بالمتوحّشة والبدائيّة والأوليّة (sauvage وprimitif وarchaïque) وقالت إنّ ذهنيّتها سابقة على المنطق (prélogique)، قبل أن تتنبّه للأمر وتدين مركزيّتها العرقيّة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تبدّلاً في تعامل الغرب عينه مع هذه الشعوب. وقد وَرَدَ الكلام، عند كلٍّ من فريدريخ نيتشه وجورج زيمل، على «مأساة الثقافة». فما العمل؟
يحسن بنا ههنا أن نفنّد الإطلاقيّة والكلّيّة الملازمتين للثقافات البشريّة، ونقوّضهما من طريق إعمال السؤال الفلسفيّ الذي يقوم بتأكيد الطابع التاريخيّ لهذه الثقافات، ثمّ يستدلّ بهذه التاريخيّة على حرّيّة الموجود الإنسانيّ في الاشتغال على الطبيعة المادّيّة والبشريّة. وعليه، فإنّي لا أغالي إن قلتُ إنّ مجتمعاً يفتقر إلى العقل الفلسفيّ النقديّ يسير إلى الانغلاق، وبالتالي إلى الإخفاق...
إنّي بالطبع أتفهّمُ دوافع بعض الذين يخشون على الدين والعقيدة والمنظومة الأخلاقيّة... كما أنّي أفهمُ أنّ الإيمان الدينيّ يعزّز الشعور بالأمان ويرسي الهُويّة الثقافيّة للأفراد والجماعات البشريّة المختلفة. إلاّ أنّني أخشى أيضاً على الألوهة من الإيديولوجيات الدينيّة والتشكيلات اللاهوتيّة والكلاميّة، وعلى الواقع من البنى اللسانيّة بخاصّة والثقافيّة بعامّة. في هذا السياق، يسأل هايدغر: ألم يجرِ تحديد الشيء، أيّ شيء (لجهة أنّه مادّة اتّخذت شكلاً، على ما ذهب إليه أرسطو، أو جوهر حمل أعراضاً أو وحدة جمعت بين إحساسات متعدّدة)، على نحوٍ مكَّنَ العقل من تفكّره باللسان وقوله وتدوينه فيه وبه، من دون اعتبارٍ يُذكر لحقيقته؟
والآن ما هي الأسباب «الموضوعيّة» التي أفضت بالفلسفة إلى وضعٍ لا تُحسَدُ عليه؟ وما هي النتائج التي ترتّبت، من جرّاء ذلك، على علاقات الناس والشعوب بعضها ببعض؟
يعود أحد الأسباب إلى قصر الجواب عن سؤال الكون أو الوجود (وهو السؤال الذي صاغه لايبنتس على النحو الآتي: «لماذا ثمّة شيء وليس بالأحرى لاشيء؟») على التيولوجيا، أي على الإلهيّات. يقول أرسطو: «ثمّة علم يبحث في الكائن أو في الموجود من حيث هو كائن أو من حيث هو موجود». هذا العلم، إنمّا أرسطو يبحث عنه ولا يبادر إلى تسميته، بل يلحّ عليه بعكس العلوم الأخرى. وعلى الرغم من ذلك، فإنّه أرجأ البحث في غرض هذا العلم، وراح يفسّر الكائن بالكائن أو الموجود بالموجود. ومن علّة إلى أخرى، انتهى به المطاف إلى الكائن الأوّل أو إلى الموجود الأوّل، إلى theos، أي إلى الإله، وهو، كما يصفه أرسطو نفسه: «أرفع الكائنات أو الموجودات قدْراً»، أي إلى اعتبار الإله، الأصل والمبدأ الأوّل والوحيد والنهائيّ لكلّ موجود إنسانيّ ولكلّ الكائنات. وعليه، يكون قد أرسى ما دعاه الـtheo-logia (أي الخطاب الذي يتناول فيه العقلُ الإلهَ)، ثم ماثل التيولوجيا بما دعاه prôtè philosophia أي بالفلسفة الأولى، فحلّت التيولوجيا محلّ الفلسفة وأقصتها، وتوهّمت أنّها أجابت عن سؤال الكون أو الوجود بعد أن خلطت بين الكون أو الوجود والإله. في هذا السياق، قال نيتشه إنّ الدين هو، بمعنى من المعاني، فلسفة برسم الشعب.
أما السبب الآخر، فيعود إلى تغليب الإيديولوجيا على الفلسفة والحلول محلّها. فالفلسفة نظام معرفيّ، كما مرّ معنا، يستقرئه الفيلسوف انطلاقاً من اللسان والاجتماع والسياسة والأخلاق والدين وخلافها، فيما الإيديولوجيا هي، بالدرجة الأولى، نظام اجتماعيّ وسياسيّ يقوم على منظومة من التصوّرات التي تتقوّم به. والإيديولوجيا تحاصرنا من كلّ جهة وصوب. فالعقل الذي بدا للوهلة الأولى عقلاً فلسفيّاً، سرعان ما كشف عورته بعد حين، حين اندرج في خانة جماعة بشريّة معيّنة التمسته واستقْوَت به وسخّرته لخدمة مصالحها. ولم يقصر الأمر على الفلسفة، فقد تمّ أيضاً تغليب الإيديولوجيا على الدين. فالإيديولوجيات، على تعدّدها وتنوّعها، تتنازع على الفوز بعقول الناس أو بالأحرى بأهوائهم. وقد عمل العقل الدينيّ الأصوليّ مثلاً على تحويل الأديان السماويّة العالميّة إلى منظومات إيديولوجيّة دينيّة. يقوم البعض بالطبع بنقد الخطاب الإيديولوجيّ، إنمّا من موقع إيديولوجيّ. فهل يمهّد العقل الإيديولوجيّ الطريق أمام قيام العقل الفلسفيّ النقديّ، أم يحول نهائيّاً دون ذلك؟ وههنا المسألة والرهان.
وثمّة سبب ثالث أيضاً تمثّل بإحلال التقنية والعلم محلّ الفلسفة. فقد راهن العقل التقنيّ والعلميّ بدايةً، ولا سيّما مع العلماء العرب والمسلمين، على الاستفادة من قوى الطبيعة وطاقاتها في سبيل خير الإنسان. ثمّ عقد هذا العقلُ العزمَ مع ديكارت على «جعل الإنسان كما لو أنّه سيّد الطبيعة ومالكها». أمّا فرنسيس باكون، فقد دعا إلى «تحقيق كلّ الأمور الممكنة» بوساطة العلم الناشئ آنذاك. ولم يكتفِ إرْنست بلوخ بالمطالبة بتطويع الطبيعة من طريق تحويل الموادّ الطبيعيّة الأوّليّة، بل ألحّ على تركيب هذه الموادّ عينها تركيباً اصطناعيّاً. وكان العقل التقنيّ والعلميّ قد أعرض عن الكون أو عن الوجود (بالمعنى الذي وَرَدَ عند هايدغر) وتناساه حين تناول الكائنات والموجود الإنسانيّ، ثمّ طوّع هذا الموجود الإنسانيّ وتلك الكائنات وأرغمها على الإفراج عن الطاقة الكامنة فيها بعد أن أسقط عليها العالِم الإيطاليّ غاليليو المصادرة الآتية: «لقد دُوِّن كتاب الطبيعة بلغة رياضيّة». وليس بعيداً من هذا الأمر، يقول هايدغر إنّ «العلم لا يفكّر»!
وبعدُ، هل ينسحب هذا الوضع الذي لا تُحسد عليه الفلسفة على حالة الشعوب والأمم بعامّةٍ وعلاقاتها بعضها ببعض؟ فلماذا قامت السياسة، ولمّا تزل، على موازين القوى وحسب؟ ولماذا لم يتمّ بَعد التزام القوانين بعامّةٍ والقانون الدَوليّ بالتحديد التزاماً كاملاً؟ أوَيعود الأمر إلى أنّ التيولوجيا والإيديولوجيا، والتقنية والعلم الغربيّين بالتحديد أعرضوا عن الكون أو عن الوجود ولم يعملوا تالياً على مواجهة العنصر الذي يلازمه ويقيم فيه (وهو العنصر الذي قد يقابله في الخطاب الميتافيزيقيّ اللاهوتيّ أو الكلاميّ مفهوم الشرّ) والذي في إمكانه أن يقضي ذات يوم على الحياة على كوكب الأرض؟
* كاتب لبناني