زياد سعيد
بعيداً من «المفاجأة» التي ضربت البلد وأجبرت الفريق المعارض على مغادرة «الصورة» الحكومية، يمكن القول ان الحكومة في فعلتها الانقلابية المستجدة لم تأت بجديد، والأرجح انه ليس في مقدورها ان تفعل، لا لأنها غير قادرة على ذلك وحسب، بل لأن قيد الوظيفة الأصلية التي عنونت لوجودها، يجعلها فاقدة الإرادة، ومكشوفة الأوراق. والأدلة على هذه الحقيقة أكثر من وفيرة، يكفي في هذا السياق استعادة بعض المحطات التي عصفت بالبلد، وأبرز تلك المحطات فترة العدوان الاسرائيلي، يومها لم تكتفِ الحكومة بالتفرّج على التدمير الاسرائيلي للبلد، بل عمدت وبموجب الوظيفة الأصلية عينها، الى محاولة ملاقاته، وبذلت في هذا السبيل جهوداً جبارة، غير ان الميدان كان قد قال كلمته الفاصلة، وهي الكلمة التي منعت السقوط الكامل للبلد.
ومع ذلك تكمن قيمة الخطوة الانقلابية الأخيرة في زيادة الوضوح ليس إلا. تمرير المسودة لا يعدو ان يكون خطوة إضافية، بل وطبيعية، في المسار السياسي نفسه الذي برز عشية انكسار نظام الاستتباع البعثي.
مهما كانت الأوصاف، فالمضمون واحد. ويتلخص في ان الجوهر الحقيقي لسلسلة الممارسات الحكومية التي سبقت وتلت العدوان الاسرائيلي المشار إليه، يؤكد الإخلاص للخطة الأصلية، أو المعدلة، المرتبطة بالأولويات الأميركية، والقائمة على هدف تحقيق ما عجز العدوان العسكري المباشر عن تحقيقه.
يغيب عن أهل السلطة ان ما كان ممكناً قبل العدوان لم يعد كذلك. الرهان المتمادي على خشية الطرف المعارض وحرصه، وإصراره على صون السلم الأهلي، لم يعد ممكناً أيضاً. الاستقالة الجماعية إشارة حاسمة إلى توجّه جديد سوف ترتسم معالمه مع المقبل من الأيام.
ما تقدم يقودنا الى القول إنه ما من فجأة أبداً، وما يبدو انه كذلك لا يعدو ان يكون خديعة كاملة، يستبطنها الجهل، أو نقص المعارف، أو في أحسن الأحوال النيات الطيبة.
الفجأة وهم حقيقي، شيوعها وحده يجعلها تتراءى كحقيقة، إلا انها ليست كذلك. هي الحل السحري لعدم الفهم أو لتعذّره، وما خلا ذلك أباطيل في أباطيل.
على أن الأصل في مشكلة الاستئثار القائمة اليوم، يكمن في أن غياب الشارع هو السبب في استمرار تدهور الدولة، حضور الشارع كان له أن يحول دون هذا التفريغ المنهجي والمنظم للدولة ومعناها. الشارع هو الضامن الوحيد من الاستبداد والفوضى وصنوف الاستئثار التي ما برحت ممسكة بالوضع اللبناني.
ولنعترف ان المشكلة بدأت يوم عمد من هو في السلطة اليوم الى خيانة الشارع، وراح يتوسل عقد الصفقات، الواحدة تلو الأخرى، وها هو اليوم وأمام التعذر في الاستمرار، يعمد الى تعبئة البسطاء الذين لا يزالون يصدقون الأكاذيب.
الخشية من الشارع أصلية، وقديمة، لذا لم يكن مستغرباً أبداً ان يقوم المشروع الإعماري الذي استهدف البلد، وخصوصاً في جانبه الهندسي، على تغييب الحيز العام وإلغاء الساحات التي يمكن لها ان تقوم بهذه الوظيفة، وخصوصاً ان وعي القيّم الأول على المشروع لحظ أهمية الحيز العام في تشكيل الهوية المختلفة المناقضة للهويات الطائفية والمذهبية الرائجة اليوم كما لم يحدث حتى في أحلك سنين الحرب.
لولا الشارع لما كان التحرر من حكم الوصاية السوري ممكناً، صحيح ان للقرار الاميركي الذي قضى برفع الغطاء عن الدور السوري أثراً بالغاً إلا ان الصحيح أيضاً ان الإذعان السوري وتالياً الانسحاب ما كان ليتم لولا الدور الحاسم الذي أداه الشارع اللبناني.
الشارع اليوم مطالب بأن يعيد المحاولة، مستفيداً من خطأ المحاولة السابقة التي أعادت التجديد للفريق عينه الذي سبق له أن أوقع بالدولة.