وجيه قانصو *
يبدو أن فوز الديموقراطيين في الانتخابات الأخيرة، وسيطرتهم على السلطة التشريعية المتمثلة بمجلسي الشيوخ والنواب، بعد مرور 12 سنة على ثورة المحافظين الجدد في عام 1994، دفعهم إلى تثمير هذا الفوز، بإطلاق جملة مواقف توحي بأن وضعية محاسبة ستبدأ مع الرئاسة الأميركية، بعد أن جُمِّد الجدل الداخلي لمصلحة دعم الرئيس في حربه ضد «الإرهاب»، وخاصة أن حملة الرئيس الأميركي العسكرية و«التحررية» في المنطقة قد بدت عليها ملامح الفشل الكارثي. فلا «الإرهاب» في تناقص بل ينتعش مع كل حملة عسكرية عليه، ولا الديموقراطية في انتشار بل تتقلص مع كل تبشير أميركي بها، ولا قوى «محور الشر» في أفول، بل تكاد تكون ــ إيران على وجه الخصوص ــ المستفيد الأول من الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق.
هذا ما جعل السؤال السياسي داخل الولايات المتحدة الأميركية، ينتقل من كيف نحارب الإرهاب، إلى جدوى ملاحقته خارج حدود البلاد إلى عقر داره؟ ومن كيف نحقق النظام العالمي وننشر الديموقراطية في العالم، إلى أين أصبحت ديموقراطيتنا الداخلية، وكيف نعالج الفساد المستشري في واشنطن بعد سيطرة الجمهوريين على السلطتين التشريعية والتنفيذية لفترة طويلة؟ وبتعبير السناتور هاري ريد: «ببساطة لم يعد هنالك أية مراجعة منذ سنين». ومن هاجس المحافظين بدمقرطة ولبرلة العالم ولو بالقوة، إلى أين أصبح اقتصادنا وما جدوى الخسائر التي نتكبدها بسبب تورطنا في مشاكل العالم؟ .
يحمل السؤال الديموقراطي السياسي الجديد صدى أخلاقياً لم نسمعه من قبل، إلا أن الكثير يرى أن هذه التصريحات ليست إلا جزءاً من الاستثمار الإعلامي لحدث الفوز الانتخابي، الذي سرعان ما يتموضع في سياق الحسابات الواقعية لشبكة المصالح المعقدة. ولعل السؤال السياسي الأنسب هو ماذا سيفعل الجمهوريون لا الديموقراطيون بعد المعركة الانتخابية؟ لسبب بسيط هو أن الرئيس بوش الجمهوري هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والمسؤول الأول عن الأمن القومي، ولأن الديموقراطيين لا يملكون رؤية واضحة في كيفية الخروج من المأزق، بل كل ما يقدمونه هو الهروب من الحرب، ولعامل مهم أيضاً هو أن فوز الديموقراطيين، بحسب استطلاعات الرأي، لم يكن بسبب تأييد الأصوات لهم، بل بسبب استيائهم من أداء الجمهوريين، بمعنى أن حصيلة الانتخابات كانت هزيمة للجمهوريين أكثر منها انتصاراً للديموقراطيين، بل كانت بحسب البعض استفتاء على أداء بوش نفسه. هذا يعني أن الانتصار الديموقراطي لا يشكل ثورة سياسية قيمية وثقافية كما فعل المحافظون الجدد في عام 1994 عندما سيطروا على السلطة التشريعية، وخاصة أن نسب الديموقراطيين المقترعين كانت قليلة، ويعود نجاحهم إلى الناخبين المستقلين الذين سجلوا استياءهم من إدارة الجمهوريين في السنوات 12 الأخيرة.
ويبدو أن الجمهوريين كانوا أسرع من الديموقراطيين في أخذ زمام المبادرة بالتغيير، من حيث بدأ القادة العسكريون في البنتاغون، كما تنقل نيويورك تايمز، مراجعة شاملة للاستراتيجيا العسكرية في العراق، ومراجعة ما نجح وما لم ينجح. كذلك فقد بدأ الجمهوريون يعيدون تجميع أنفسهم في الداخل، فعملوا على انتزاع رئيسهم من المحافظين الجدد، الذين راحوا بدورهم يتنصّلوا من إخفاقات بوش الابن ويحيلوها على سوء أداء الإدارة لا على رؤاهم الكونية. فكانت أولى مبادرات الرئاسة هي إقالة رامسفيلد، التي تعني عملياً عزل المحافظين الجدد عن حركة القرار السياسي، وتمكين كوندوليزا رايس من تنفس الصعداء بعد تفاقم الصراعات داخل فريق الرئاسة. ثم كانت الخطوة الرئاسية الثانية، وهي الاستعانة بفريق بوش الأب، لأجل تحصيل وجهة نظر جديدة في مواجهة الأزمة تكون بديلة عن مشروع المحافظين الجديد. أصبحنا، يقول الرئيس بوش، «في حاجة إلى عيون جديدة في النظر إلى المشكلة».
كان في مقدم من استعان بهم بوش الابن، جيمس بيكر، وزير خارجية بوش الأب، إذ أوكل إليه دراسة الملف العراقي وتقديم مقترحات للخروج من المأزق. كذلك الاستعانة بروبرت غايتس، الذي كان حتى وقت قريب من أبرز منتقدي سياسة بوش، بأن أسند إليه وزارة الدفاع.
على وقع توصيات بيكر ــ هاملتون في لجنة دراسة العراق، بـ«أننا لن نوصي بما هو أفضل لمستقبل العراق أو المنطقة بالضرورة، بل ما هو أفضل لأميركا ولخروجها بأقل الخسائر الممكنة»، التفكير السياسي الأميركي مرشح لأن يتخلى عن نزعة الغرور ليصبح أكثر تواضعاً، ولأن يعيد النظر في عقيدة الحرب الاستباقية، ويتريّث في التفكير في أية حملة عسكرية جديدة، ويعرض عن وهم تغيير العالم ويميل إلى توسيع دور الاتحاد الأوروبي في المنطقة، وينتقل من تهديد الدول «المارقة» أو دول «محور الشر» إلى إمكانية التحاور معها واعتبارها جزءاً ومفتاحاً لحل المشاكل في المنطقة بعد اتهامها في السابق بأنها سبب تلك المشاكل، وتبادر الإدارة الأميركية وفق نصائح بيكر إلى تحريك المسار التفاوضي الفلسطيني ــ الإسرائيلي والمسار السوري ــ الإسرائيلي.
التغير في السياسة الأميركية يعني التكيف الداخلي مع معطى الانتخابات الجديدة، الذي يعني حصول شراكة حقيقية بين السلطة التشريعية (الديموقراطيين) والسلطة التنفيذية (الجمهوريين)، أي المحاسبة والتوازن (Check and Balance). إلا أن هذا لا يعني حصول اختراقات حقيقية في جوهر السياسة الأميركية، فلا الأميركيون راغبين، بحسب قولهم، في تقديم هدية ثانية لإيران بانسحابهم من العراق، ولا هم مستعدين للمخاطرة بإخراج منطقة النفط من سيطرتهم العسكرية والسياسية، ولا هم مستعدين حتى الآن للضغط على إسرائيل ولو أخلاقياً من أجل تحقيق سلام عادل في المنطقة، بل لا يبدو أن استقرار المنطقة موضوع على جدول السياسة الأميركية، لأن ذلك ــ أي الاستقرار ــ يؤدي إلى تقليص دورها وتضييق نفوذها، وإلى إمكانية حصول تحولات ذاتية، غير متوقعة وخارجة عن التحكم، تخرجها من المنطقة إلى الأبد.
تقاسم السلطة بين الحزبين، يعني تغيراً في شكل الأداء من دون تغيّر في أصل الأداء، الذي لا تزال تحكمه ثوابت يراعيها الجميع، أهمها أن الشرق الأوسط بالنسبة إليهم شر لا بد منه.
* استاذ جامعي