توفيق شومان *
تقترب نتائج الانتخابات النصفية في مجلسي الكونغرس الأميركي بتداعياتها ومتغيراتها المتوقعة من نظيرتها في أوائل السبعــــــــينيات، حين كانت الحرب الفيتنامية تشكل أولوية السياسة الخارجية الأمـــيركية في إطار مكافحة الشيوعية.
ولئن مهّدت هذه النتائج لانقلاب الاستراتيجية الأميركية وأفضت إلى مراجعة جذرية للدور الأمني والعسكري في جنوب شرق آسيا، تمثل مضمونها بالانسحاب من فييتنام، وتالياً من جارتيها كمبوديا ولاوس، فإن نتائج الانتخابات النصفية الأخيرة، تختزن العديد من عناصر التغيير التي تقف على رأسها آليات التعاطي الجديدة مع الشرق الأوسط، وتحديداً القضايا المتعلقة بالعراق وإيران وسوريا ومسار التسوية الفلسطيني ــ الإسرائيلي.
بداية القول في هذا الاتجاه ترتكز على واقع ذبول سياسات المحافظين الجدد، وهي السياسات التي عنونت الولاية الأولى للرئيس جورج بوش، واستمدت منطلقاتها من نظرية الحرب الاستباقية، و«مكافحة الإرهاب»، وتعميم «الديموقراطية» وتغيير الأنظمة القائمة.
غير أن هذه السياسات التي راح «أبطال» ومفكروها ضحيتها، مثل ريتشارد بيرل، وبول وولفوفيتز الذي رُحِّل إلى البنك الدولي، وكذلك جون بولتون المتوقع أن يلقى تثبيته في الأمم المتحدة معركة حامية الوطيس بين البيت الأبيض والكونغرس الجديد، فضلاً عن دوغلاس فيت، باتت (سياسات المحافظين الجدد) في طيات السؤال عن حجم حضورها وتأثرها بعد نتائج النصفية الأخيرة، وخاصة في ظل الحديث المرتفع الوتيرة، عن تأثيرات قوية في سياسات الرئيس بوش في السنتين المقبلتين، من قبل شخصيات براغماتية عملت مع إدارة بوش الأب، من مثل جيمس بيكر، وبرنت سكوكرفت، ولورانس اغيلبلغر، بالإضافة إلى كولن باول وريتشارد أرميتاج، وكل هذه الشخصيات تنتمي الى المدرسة الواقعية التي تؤمن بسياسة الصفقات أو بإدارة الأزمات وتبقي عناصر المواجهة خيارات بعيدة أو تلويحية، وإلى هذه المدرسة ينتمي وزير الدفاع الجديد، روبرت غيتس.
انطلاقاً من ذلك، قد يكون الاحتمال الاكثر رجحاناً في السياسة الخارجية الاميركية في المرحلة المقبلة، مستنداً إلى العوامل التالية:
1 ــ التنسيق الوسط بين البيت الأبيض والكونغرس.
2 ــ اعتماد سياسة الصفقات.
3 ــ رفع مستوى التنسيق مع الاتحاد الأوروبي.
4 ــ اعتماد أكثر على الأمم المتحدة.
هذه العناوين، يمكن إدراجها على سبيل المثال، عراقياً، من خلال تشكيل رؤية مشتركة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، اعتماداً على ما ترفعه مجموعة جيمس بيكر ــ لي هاملتون بشأن العراق، وحيث يتمحور مضمونها حول «عرقنة» الأمن وإحالته على الجيش والشرطة العراقيين، واحتمال أن تتمركز قوات الاحتلال على الحدود العراقية الدولية، منعاً لتدخلات عسكرية إقليمية أو تدفقات لمسلحين من خارج العراق، كما أن إعطاء مفهوم «الفدرلة» بعداً تطبيقياً قد يشكل أحد الجوانب المرتقبة لكيفية التعاطي الأميركي مع العراق.
بطبيعة الحال، سيشكل العراق المحور المتقدم في قائمة المتغيرات الأميركية المتوقعة، فالانتخابات النصفية يمكن وصفها بالاستفتاء على سياسة الرئيس بوش العراقية، وبحسب زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس النواب الجديد، هاري ريد، «إن الكونغرس سيكون له دور أكبر في السياسة الخارجية مع تركيز قوي على العراق»، فيما كان لافتاً، التصريح الأول لرئيسة مجلس النواب المنتخبة نانسي بيلوسي، إذ أكدت ضرورة «تغيير التوجه في العراق»، علماً بأن بيلوسي كانت قد صوتت في عام 2002، ضد استخدام القوة في العراق وإسقاط نظامه بالعمليات العسكرية.
وفي السياق نفسه، قد يكون من الأهمية بمكان، ملاحظة ما قاله رئيس أركان الجيوش الأميركية بعد نتائج الانتخابات، إذ صرح بالقول: «إن القادة العسكريين يعدون العدة للتغيير في العراق»، واستطراداً، فإن صحيفة «واشنطن بوست» أوردت بتاريخ 10/11/2006، أن مدير الاستخبارات الأميركية، جون نيغروبونتي، جال على منطقة الشرق الأوسط واضعاً قادتها في مناخات المتغيرات الأميركية في العراق، ومن ضمن هذه المتغيرات، إيلاء المهام الأمنية للعراقيين، والتفاوض مع المسلحين العراقيين، حيث شهدت العاصمة الأردنية عمان، اجتماعات عدة بين ممثلي الفصائل المسلحة ومسؤولين أمنيين أميركيين، وفوق ذلك، فإن المتغير الأكثر تلبوراً في المرحلة القصيرة المقبلة، ستختصره المشاركة السعودية والأردنية والإماراتية تجاه العراق، وهو الأمر الذي كان الرئيس جورج بوش، قد أشار إليه قبل الانتخابات النصفية بأيام قليلة.
مع إيران، من المهم أولاً الإشارة إلى تقاطع جمهوري ــ ديموقراطي بشأن الآتي:
1 ــ الحؤول دون عسكرة البرنامج النووي الإيراني.
2 ــ إيران دولة خطرة، على منطقة الخليج.
3 ــ إيران تهدد الأمن الإسرائيلي.
هذه العناصر التي تشكل أساساً مشتركاً لتصور الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة، لا تلغي فروق التعاطي بينهما حيال الجمهورية الإسلامية. فوزير الدفاع الجديد الذي كان يعمل مع لجنة جيمس بيكر في اللجنة الدراسية بشأن العراق، دعا من خلال لجنة بيكر إلى إشراك إيران في الملف العراقي، وهذا اعتراف بالدور الإقليمي لطهران، كما أن روبرت غيتس نفسه، كان قد دعا في عام 2004، إلى التحاور مع إيران، ويعرف عنه بأنه أرسا ما يمكن تسميتها نظرية المدى الطويل مع طهران، المقرونة بسياسة التوازن بين الحوافز والعقوبات، بل ينسب إليه، عدم الممانعة في اعتماد مبدأ المقايضة على كل شيء إذا ما أريد حلحلة تعقيدات الملف الإيراني.
إن متابعة نتائج الانتخابات النصفية، تفرض الوقوف ملياً أمام سقوط أخطر الصقور الجمهوريين المعادين لطهران، من مثل، ريك سانتورم وجوج ألن، وهما من دعاة الخيار العسكري، وهذا الـــــخيار كما يقول أمير اورن، المعلق العسكري في صحيفة «هآرتس»، الإسرائيلية، «غدا بعيد التحقيق، فغياب رامسفيلد، أقصى عملياً الجناح المتشدد في الإدارة الأميركية».
وعلى الأرجح، أن سياسة العقوبات على طهران، قد يتقاطع حولها الديموقراطيون والجمهوريون، ولكن على قاعدة تفاعلية أوسع مع الاتحاد الأوروبي، الذي قد يؤدي دور الوسيط بين الولايات المتحدة وأكثر من قضية شرق أوسطية. وحيال سوريا، من غير المستبعد أن يصار إلى إعادة تفعيل مقولة «تغيير السلوك»، ابتداء من العراق حيث الوجود الأميركي المباشر، وأما تحريك المسار التفاوضي السوري ــ الإسرائيلي، فدونه عقبات عدة، لعل أهمها، أن ولايتين رئاسيتين للحزب الديموقراطي بين الأعوام 1992 و2000 قادهما الرئــــــــيس السابق بيل كلينتون، لم تفلح في إحداث الاختراقات المطلوبة. ولذلك قد لا ينطوي القــــــــول على أية مفاجأة حين يشار إلى تغافل الديموقراطيين عن استحضار الملف الســــــــــوري قبل الانتخــــــــابات النصفية وبعدها، إلا أن دعوة لجنة جيمس بيكر إلى إشراك سوريا في الـــــتــــــــــفاوض بـــــــــشـــــأن مســـتقبل العراق، تــفـــتــح كوة مهمة تطل في جانب منها على الرابط السوري، الإيراني، وفي جانب آخر على سوابق الاندفاع الأميركي نحو التسوية في الشرق الأوسط، إذ إن اتفاقيات «كامب ديفيد»، و«أوسلو» و«وادي عربة»، أنجزت في عمود الإدارات الديموقراطية، لا الجمهورية كما هي الحال الآن، وبصرف النظر عن سيطرة الديموقراطيين على الكونغرس.
فلسطينياً، ربما أوجز أليكس فيتمان في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الاسرائيلية، ملامح المتغيرات المرتقبة في السياسة الخارجية الاميركية عندما قال بتاريخ 10/11/2006: «إن عملية مثل غيوم الخريف لن تتكرر في عهد الكونغرس الجديد»، وهذا يعني أن التكهن بإمكان التهدئة (لا الحل)، في الأراضي الفلسطينية، قد يطغى على التصعيد والتوتير الإسرائيليين. ولعل من المفيد التوقف هنا، عند مجموعة دلالات، تبدأ بحمل إيهود أولمرت «أفكار حلحلة» إلى واشنطن، وتمر بجدية الحديث عن حكومة فلسطينية جديدة تترافق مع صفقة شاملة بشأن الأسرى، وتنتهي بإعادة، تنشيط اللجنة الرباعية الدولية.
مختصر القول، أن التوقعات المتعلقة بالسياسة الخارجية الأميركية بعد الانتخابات النصفية، من الإفراط وصفها بالانقلابية، إنما هي متغيرات تندرج في سياق استراتيجية ثابتة. وإذا كانت هذه المتغيرات سيكون العراق محورها الأكثر فاعلية وعلى قاعدة إعادة الانتشار العسكري، فإن الملفات الأخرى، باستثناء ابتعاد الخيار العسكري مع إيران، تدور في فضاء اختلاف الأسلوب، لا الانقلاب على الاستراتيجية. إلا أن ملاحظة طارئ تقلص دور المحافظين الجدد، تبقى الأساس والأصل والأهم.
* كاتب لبناني