غسان العزي *
يملك الكونغرس عبر لجانه التسع عشرة التي بات يسيطر عليها الديموقراطيون إمكان عرقلة عمل الرئيس وعدم تلبية طلباته المالية على وجه الخصوص، كما أنه يملك صلاحية المبادرة إلى سن القوانين واقتراحها وتعديلها وإلغائها. لكن الرئيس أيضاً يملك حق النقض (الفيتو) ضد الكونغرس، ولا ننسَ أن النظام السياسي الأميركي رئاسي بامتياز، وقد نجحت كل تجارب التعايش السابقة، وهي كثيرة في التاريخ الأميركي المعاصر، بين كونغرس وإدارة لاينتميان الى الحزب نفسه. ولا إشارة إلى أن الفشل سيكون من نصيب هذه التجربة التي تبدأ اليوم. ففور صدور النتائج اجتمع الرئيس في البيت الابيض برئيسة مجلس النواب الجديدة نانسي بولسي وزعيم الديموقراطيين في مجلس الشيوخ توني هايدن ليطلق أمامهما عبارات التعاون والتعاضد، مؤكداً انفتاحه على كل الأفكار والمقترحات، ولا سيما في الشأن العراقي. وهو يدرك أن الديموقراطيين مثله يفتقرون إلى حل سحري أو خطة للخروج من المأزق العراقي، وهو نفسه لطالما انتقدهم على ذلك خلال الحملة الانتخابية. وينقسم الديموقراطيون في هذا المجال إلى ثلاثة فرقاء: واحد يقول بضرورة الشروع في تطبيق روزنامة انسحاب من العراق ابتداءً من هذا العام 2006، وآخر يرى إلحاحية في الانسحاب الكامل السريع، وفريق يتفق مع الجمهوريين في أن مثل هذا الانسحاب يشكل خطراً على هيبة وأمن الولايات المتحدة. جورج بوش يصر على أنه سوف يستكمل المهمة وأنه واثق من النجاح. لكن مفردة نجاح في هذه الظروف لا تعني أكثر من إمكان إيجاد مخرج معقول. هذا المخرج تعمل على صياغته لجنة برئاسة الجمهوري بيكر والديموقراطي هاملتون سترفع تقريرها، الذي تسرب الجزء الاساسي منه، في غضون الأسابيع المقبلة. وهنا فليس من قبيل المصادفة أن يسارع بوش إلى تعيين صديق العائلة مدير السي.آي.ايه الأسبق روبرت غيتس، وهو عضو في هذه اللجنة، فور تنحية وزير الدفاع رامسفيلد الذي بات يحمل الرقم واحد في لائحة ضحايا الانتخابات، علماً بأن المرشح للرقم الثاني قد يكون جون بولتون الذي فرض بوش تعيينه في غفلة من الكونغرس الجمهوري الذي كان في عطلة بعد أن رفض مثل هذا التعيين.
هل تطول هذه اللائحة؟ هناك من يقول إن الأشهر المقبلة سوف تشهد لجان تحقيق ومحاكمات ومساءلات لكثيرين يُعَدون مسؤولين عن الإخفاق العراقي إن لجهة تقديم معلومات مزورة أو خاطئة عن أسلحة الدمار الشامل، أو لجهة سوء إدارة العراق بعد احتلاله أو الفساد في مجال تلزيم الشركات والمحسوبيات والفواتير المبالغ فيها، فضلاً عن فضائح فساد ذات طبيعة جنسية وأخلاقية وغيرها ضربت مقربين من الرئيس. لكن الكيدية ليست مجدية في الولايات المتحدة التي تتأهب لانتخابات رئاسية بعد عامين من اليوم، وسيكون على من يبغي الفوز فيها أن يبدي الكثير من النباهة والحذر. فالديموقراطيون مثلاً، وإن كانوا ضد سياسة الرئيس العراقية، لن يكون بمستطاعهم رفض طلباته تمويل الحرب كي لا يتهموا بالتخلي عن «أولادنا الجنود»، وهم في ساحة الوغى. والرئيس سيكون قادراً على إحراجهم، ولا سيما أنه في نهاية ولايته الثانية يستعد، كما فعل غيره من الرؤساء السابقين، إلى ترك السياسة والانصراف للعمل المؤسساتي الخيري والاجتماعي، ونائبه ديك تشيني لن يكون مرشحاً للرئاسة، في سابقة فريدة منذ العام 1952، إذ إنه يعرف بأنه الأقل شعبية من بين نواب الرئيس في كل تاريخ الولايات المتحدة.
لقد وضعت نتائج الانتخابات النصفية الأخيرة حداً نهائياً لحقبة المحافظين الجدد، وهي حقبة بدأت بالأفول منذ أواخر ولاية بوش الأولى وراحت تتكرس منذ بداية عام 2005 عـــــــــندما أعلنت وزيـــــرة الخارجية الجديدة رايس، من باريس، عن «بداية عصر الدبلوماسية الأميركية»، بمعنى النــــزوع نحو التعددية بديلاً من الأحادية التي ميزت الولاية الأولى من دون نجاح يذكر. ومنذ ذلك الحين يلاحظ المراقب تنامياً ملحوظاً لدور الأمم المتحدة، ونوعاً من الإدارة المشتركة أو متعددة ــ الطرف بين واشنطن وعواصم القرار في العالم، رغم الخلافات في وجهات النظر للملفات الدولية الكبرى (إيران،كوريا الشمالية، لبنان، فلسطين وحتى العراق إلى حد ما)، وإن مستوى الأحادية الأمــــيركية فيها إلى انخفاض ملحوظ.
في هذا الوقت راح المحافظون الجدد يغادرون الإدارة، إما للانصراف إلى أعمال خاصة (دوغلاس فيث مثلاً)، أو مستقيلين تحت عبء فضيحة (أمير الظلام ريشارد بيرل، دافيد فروم، سكوتر ليبي...)، أو بسبب ترقيتهم إلى مناصب دولية في الخارج (وولفوفيتز، بولتون)، وراح نفوذهم يسلك سبيل الضمور والانكفاء. وهم سبقوا رامسفيلد في الانسحاب، بدليل تعليقاتهم في مجلة «فانيتي فير» في الثالث من الشهر الجاري (ولا سيما ريشارد بيرل ومايكل ليدن وفرانك غافني وكينيث ادلمان وديفيد فروم واليوت كوهين وويليام كريستول) التي يتبرأون فيها من بوش الذي يعزون إليه الفشل بسبب عدم قدرته على تطبيق أفكارهم... العظيمة.
بناءً عليه، من المبالغة بمكان توقع انقلاب أو تغيير جوهري في السياسة الخارجية الأميركية بعد فوز الديموقراطيين في منتصف الولاية. جل ما هناك أن وزيرة الخارجية رايس سوف تشعر بقدر أكبر من الحرية في عملها، فتدفع الإدارة إلى مزيد من الدبلوماسية في معالجة ملفات دولية عالقة(كوريا الشمالية مثلاً). والحوار مع سوريا وإيران بشأن الخروج من العراق، بحسب توصيات لجنة بيكر ــ هاملتون المنتظرة، لا بد أن ينعكس على الملف اللبناني الذي سارع إلى تلقف نتائج الانتخابات فور صدورها (فشل التشاور والتصعيد في المواقف).لكن من يستطيع التأكيد، في هذه اللحظة، على أن نتائج ملموسة تنتظر مثل هذا الحوار؟ الديموقراطيون والجمهوريون يتفقون في كل شيء تقريباً حيال الشرق الأوسط: الانحياز إلى «إسرائيل» وانتقاد النظام السوري مع الحرص على عدم تغييره بالقوة(خوفاً من المجهول)، والحرص على عدم حيازة إيران للسلاح النووي ومحاربة الإرهاب والموقف من حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وكل من يقاوم «إسرائيل». والتعايش الجديد بين الحزبين يعني أنه، في السنتين المقبلتين على الأقل، سوف يتعين على العرب والإيرانيين التعامل مع سياسة خارجية أميركية تحظى بإجماع داخلي، وهي بالتالي أقدر على اتخاذ القرار حرباً أو سلماً، وهو ما يعني إمكان أن يتبين لهؤلاء أنه إذا كان فشل بوش في الانتخابات خبراً جيداً، فإن فوز الديموقراطيين قد لا يمسي كذلك بالضرورة.
* كاتب لبناني