فادي بردويل
يأتي المثقف النقدي على غفلة ليجرّدك من أحلامك. يحطّم بيده الغليظة ما نسجتَه بدراية على مرّ السنين. أغنية من هنا، دعاء من هناك. آلهتك أوهام. وعيك زائف. ذوقك انعكاس لبنية ما. أنبياء العصر الحديث ينطقون بالحقيقة. ولكنها ليست بإلهية هذه المرّة. حقيقة وضعية لعصر الدقّة والانضباط.
ذلك العصر الذي قرّر المخرج تدشينه بمشهد رؤوس متدحرجة على أزقّة باريس ذات يوم من سنة ١٧٨٩. سالت الدماء. امتزج الأزرق منها بالأحمر لأوّل مرّة، فصدح الكورس: حريّة، مساواة، إخاء. أيقظ نداء الكورس مواطني الجمهورية بعدما أحال رعايا المملكة إلى مادّة دسمة لجيش من مؤرخي العصور الملكية والحقبات الإقطاعية. انتهى المشهد الأوّل.
حريّة، مساواة، إخاء. ديموقراطيّة. كلّ واحد يساوي واحداً، وقت الاقتراع. صوت البيك يساوي صوت ابن مدينة الصفيح. حصّنت الديموقراطية السياسية مواقعها ودعّمتها وفرضت أجندتها على هذا الكوكب برمّته حتّى قيل فيها إنّها المحطّة الأخيرة لقطار الإنسانية في مجتمعاتها، والأفق المرتجى لمن لم يذق هذا النعيم بعد.
أمّا العدالة الاجتماعية فلم يلتقطها رادار الديموقراطية السياسية. وما إن لقط بعض إشاراتها، حتى وضعها بمواجهة الحرية الفرديّة، قدس أقداس عصرنا هذا. وبقية القصّة معروفة، أو بالأحرى معاشة.
في توزيع الأدوار الحديث هذا، بقيت مفاتيح الخزنات في أيدي ممثّلي الدرجة الأولى، فيما تحلّق المواطنون ــ الكومبارس حولهم، طالبين البروز في أدوار الجنود والعمال وما شابه من الأدوار الجانبية التي يحتاج إليها كلّ إنتاج ضخم.
أمّا المثقّف النقدي فقد سلّمه المخرج مفاتيح من نوع آخر. سلّمه «الماستر كي». ذلك المفتاح الذي يستسلم له أي قفل بغض النظر عن غلاظته أو تعقيد شيفرته. ذلك المفتاح ــ السلاح استعمله بعض هواة الضغط السريع على الزناد عشوائياً، فحطّم بلا رحمة كلّ ما سقط تحت أنظاره، من البنى الاجتماعية المفوّتة إلى آخر إصدارات ثقافة الاستهلاك.
نذر ممتلكو المفاتيح السحرية أنفسهم لإدخال بعض من النور إلى الزوايا المظلمة التي يركن إليها المواطنون ــ العامّة. أسلحة من العيار الثقيل تلقى على أمل القضاء على الوعي الزائف، على أمل تحرير ما بقي من جماهير مخطوفة على يد إيديولوجيات من العصور البائدة، نذروا أنفسهم لأجل خلاص الناس... من أنفسهم.
ولكن ما العمل إذا رفض الوعي المطابق الإفصاح عن وجهه؟ وما العمل في حال مقاومة الجماهير المخطوفة محاولة فكّ أسرها بالقوّة؟ يجيب المثقف النقدي: الاستمرار باستعمال المفتاح ــ السلاح نفسه، بوتيرة أسرع وأشرس على الأرجح إيماناً بفعالية هذا السلاح على تحقيق النتيجة المرتجاة. فهي مجرّد مسألة وقت قبل الانهيار الشامل لبنى التخلّف، يردد هؤلاء النقّاد بثقة المؤمنين. فالتاريخ إلى جانبهم. والتاريخ، لمن لم يدرك بعد، لن يرحم من حاول وضع العصي في عجلات مسيرته الظافرة إلى الأمام.
أمّا البديل فلا يكمن برمي تراث الفكر النقدي في البحر والحنين إلى ماضٍ ما قبل نقدي. البديل لا يكمن أيضاً بعدم طرح أي سؤال عن الحال الراهنة، بل ربما، ببساطة، بتجديد الأدوات التي تستخدم في محاولة فهم مجتمعاتنا. أدوات لا تقوم على العنف الرمزي الذي يحقّر معتقدات الناس وقيمهم ومشاعرهم، فيما ترفع في اللحظة نفسها القيم «العالمية» للمثقف الرسولي. أدوات لا ترتكز في تحليلها على السكّة الأوحد التي يجب أن يسلكها التاريخ، بل على التشخيص الملموس لكلّ حالة. ربما يجب الاقتناع بأن «الماستر كي» لم يعد صالحاً للاستخدام. ربما، أيها السادة، يكمن جزء من الحلّ في تغيير المفتاح، عوض الإصرار الميكانيكي على خلع القفل.