جورج قرم *
يتعجب الناس أكثر فأكثر من تصرف الأكثرية واستئثارها بمقدرات الوضع وكأن ذلك شيء جديد. بينما الحقيقة أن من يسيطر على مقاليد الأغلبية اليوم هو عينه الذي سيطر على لبنان منذ عام 1992 بالسجل نفسه الحافل بالخروق الدستورية المتواصلة والاستخفاف برأي الآخرين. ولا بد هنا من التذكير بأن هذا المنهج بدأ بقضية إعادة إعمار الوسط التاريخي للعاصمة الذي وضعت اليد عليه في شكل تعسّفي أدى إلى مصادرة أملاك اللبنانيين في شكل منافٍ تماماً للدستور اللبناني وأدى إلى محو الذاكرة الجماعية اللبنانية وتغيير المعالم العمرانية والحضارية لعاصمتنا. وقد سكت عن ذلك في حينه معظم اللبـنانيين وتمّ الأمر بحجة أنه لا بديل لهـــــــــذا المشروع. وهذا العــــــــــمل في الحقيقة كان أول مــــــــــــسمار في المبادىء الأســــــــاسية للدستور، وخاصة حماية الملكية الخاصة، ولذلك لم يكن من الصعب في ما بعد تعــــــــديل الدستور مرّات عديدة وكل مرة «لمرة واحدة» و«في شكل استثنائي» لإجراء طبخة الانتخابات بما يناسب تحالف رجال المال والميليشيات المنتصرة في الحرب.
وقد دخلنا في الوقت نفسه في عهد الصفقات العقارية والمالية الجنونية بحجة الشرق الأوسط الجديد حينذاك في إطار مسار السلام المزعوم في مدريد عام 1991 ومن بعد ذلك اتفاقات أوسلو، وأدخلنا عنصر المال سلاحاً فتاكاً في الحياة السياسية لتأسيس ديكتاتورية هذه المجموعة الحاكمة وتكيفنا مع هذا السلاح الناعم الذي يقتل الضمير فقط دون الجسد. وتم إسكات الناس بفتح الخزانة اللبنانية على مصراعيها للإغداق بالأموال، سواء عبر الصناديق أو عبر المجالس، أو في شكل رئيسي عبر الفوائد الخارقة المستوى على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية ما جعل من كل مدّخر، ثرياً كان أو متواضع الحال، أو شركة خاصة أو مؤسسة من المجتمع المدني لها بعض السيولة، يتمتع بريع مالي لا يبرره أي منطق إنما يسمح له بزيادة أمواله من دون أي جهد إنتاجي. ومن جراء ذلك، تراكمت منذ عام 1995، مديونية هائلة على الخزانة اللبنانية، وكان يـُقال بأن كل الدول مديونة وكان يُشار إلى مديونية الولايات المتحدة وكأنّ الاقتصاد اللبناني يشبه تماماً الاقتصاد الأميركي.
وكلما كانت تتعالى الأصوات للتصدي لكل تلك البدع، كان يُردّ بعنف بأن هذا ثرثرة هدّامة لأناس لا يودّون الاستقرار والازدهار للبلاد أو يودّون فقط دخول نعيم المال فيمارسون النقد السخيف على أمل الحصول على المال. وكان يُدّعى بأنه لا بديل من الفريق الحاكم يمكنه أن يمسك الليرة اللبنانية ويوفر الاستقرار النقدي، ويا ويل! لو ترك هذا الفريق سدة الحكم!
وفي الحالتين التي أتت فيهما حكومة من غير الفريق الحاكم (حكومة الرئيس الحص وحكومة الرئيس عمر كرامي)، كان هذا الفريق يقيم الدنيا ويقعدها، كأنّ أي حكومة لا تنبثق منه هي حكومة غير شرعية تؤدي بالبلاد إلى الهلاك وتصبح مسؤولة عن كل الموبقات السابقة واللاحقة.
والحقيقة تقال إن الجميع مسؤول لما آلت إليه الأوضاع اليوم، لأن السكوت منذ عام 1992 عن تسلّط الفريق الحاكم نفسه على مقدرات البلاد وعقول الناس عبر سياسات إعلامية حادة وإغداق الأموال، لم يلقَ المعارضة التي كان يجب القيام بها في شكل جماعي وفعّال. فهذا حزب اللّه، على الرغم من دخوله الحلبة السياسية الداخلية منذ انتخابات 1992 لم يتصدَّ إلا هامشياً لهذا النمط من الحكم لأسباب مختلفة، قد تكون أهمها ضرورة تكريس كل الجهود لتحرير الجنوب. إنما لم يتغير هذا الأسلوب بعد التحرير، بل سياسة المهادنة كانت سيدة الموقف إلى درجة أدت إلى تحالف خطير بين الفريق الحاكم وحزب اللّه في الانتخابات الأخيرة وقد أصبح اليوم هذا التحالف السابق يهدد إنجازات المقاومة كلها منذ التحرير.
أما قوى المعارضة الأخرى وهي كانت مكوّنة من تيارات وشخصيات سياسية مختلفة الأهواء، فالبعض منها هادن بحجة التحالف الاستراتيجي مع سوريا في القضايا الإقليمية الكبرى، والبعض الآخر بحسابات طائفية ضيقة لتجنب مزيد من الخسارة في الشعبية الطائفية الطابع أمام قوة المال والإرهاب الإعلامي، وآخرون لتجنب إزعاج المملكة السعودية، والبعض أيضاً لنمط الفردية والنجومية في عالمنا السياسي الصغير. وقد باءت بالفشل كل محاولات تجميع هذه المعارضات فبقيت مشتتة وبالتالي غير فعّالة.
ولم يتغير هذا الواقع الأليم إلا بالموقف الجريء الذي اتخذه التيار الوطني الحر عندما احتك في أرض الواقع بدكتاتورية الفريق الحاكم وتعرض لأسلوبه الفوقي في التعامل مع الآخرين، فاتخذ تلك المواقف المشرفة، وخاصة إبان الهجوم الإسرائيلي الغاشم ولم يخطىء في تحليل الواقع المحلي والإقليمي والدولي، فعرف أن العدو الرئيسي للبنان هو دولة إسرائيل وأن أي كلام عن مسؤولية حزب اللّه في ما أصاب لبنان هو كلام يصب في منطق العدو ومن يسانده من الدول الغربية وفي منطق من يريد إدخال لبنان في مزيد من الفتنة الداخلية.
لذلك، لا بد من مراجعة الممارسات السابقة انطلاقاً من كل الخروق الدستورية التي تمّت في الماضي. فالخروق الجديدة التي تشهدها الساحة ليست إلاّ نتيجة أخطاء كل من قام بها ومن سكت عنها في الماضي على السواء. ولذلك فلا عجب من مواصلة الفريق الحاكم القيام بمزيد من الخروق الدستورية، على أمل أنها ستمرّ كما مرّ ما سبقها في الماضي من خروق ابتداءً بعدم الإقدام على وضع موازنات الدولة في السنين الأخيرة إلى شلّ المجلس الدستوري الذي يترك البلاد من دون أي مرجع قانوني يصدّ خروق الدستور، ومواصلة انتقاص ما تبقى من سلطة رئيس الجمهورية بعد التعديلات التي أُدخلت على الدستور على أثر اتفاق الطائف، وعدم بتّ استقالة وزير الداخلية، وتعيين وزير خارجية بالوكالة بوجود وزير خارجية أصيل يمارس صلاحياته، والشرخ الذي أصاب الطائفة الدرزية و.... و.... كل ذلك ليس إلاّ نتيجة مساهمة الجميع في شكل أو آخر في صعود منطق خرق الدستور المتواصل والاستئثار بالحكم، ومنطق المال والإرهاب الإعلامي.
حقاً! ألم نتحمل جميعاً قسطاً من المسؤولية منذ السكوت عن إنشاء شركة «سوليدير» والقبول بانتخابات 1992، وكذلك القبول والسكوت عن سياسة القمع التي مورست على جزء من شباب لبنان طوال سنين الهيمنة السورية من دون أن نسمع كلمة شجب سواء من الفريق الحاكم أو من المعارضات المختلفة (مع العلم أنه خلال حكومة الرئيس الحص 1998 ــ 2000، خفّ هذا القمع إلى درجة كبيرة إذ أُعيدت إلى البلاد حرية التظاهر التي كانت قد أوقفت الحكومات السابقة العمل بها)، أو من دون أن نفهم ما كانت أسباب مثل هذه السياسة العوجاء التي ساهمت في تسريع وتيرة هجرة الأدمغة من لبنان وإبقاء بعض العقليات التي صاغتها أحداث الفتنة الكبرى بين 1975 و1990.
هذه مسؤوليات جماعية ولا حاجة اليوم إلى الذهول أمام تصرف الحكومة الحالية، كما لا حاجة إلى اتهام السفارات الأجنبية بالتدخل، فهذا تدخل نسكت عنه منذ عام 1840 أي منذ تأسيس نظام القائمقاميتين. ولا أحد من المسؤولين منذ ذلك التاريخ جرؤ على الطلب من السفارات الغربية التقيد بالعرف الدبلوماسي الدولي، ومن الصحافة اللبنانية عدم طلب التصريحات السياسية من السفراء الأجانب أو الموفدين الغربيين؟ بل يزحف الكثير من اللبنانيين للانبطاح والتودد أمام الدبلوماسيين الأجانب وكأنها ميزة وطنية كبرى.
ألم يحن الوقت أن نفتح حواراً في الأساسيات لا الشكليات كما هي الحال حتى الآن، أن نحدد من العدو ومن الصديق للبنان في الظرف الراهن، وهل بالفعل لم تعد إسرائيل عدوة لبنان في الشكل الكينوني العميق، كما هي عدوة الفلسطينيين مهما قدّموا من تنازلات متواصلة أمام عجرفتها؟ وكذلك ألم يحن وقت الإقرار بما إذا كان يمكن الاتكال على السياسات الأميركية لتوفير الاستقرار في لبنان بعد كل ما دلت عليه نتائج أعمالها وسياساتها في العالم الثالث، من أميركا اللاتينية إلى أفغانستان وفيتنام والعراق؟ وهل يجب أن نتهجم على إيران لأنها تساند قضية الشعب الفلسطيني والمقاومة اللبنانية وتقف في وجه الولايات المتحدة؟ هل يجب أن نوظّف جريمة اغتيال الرئيس الحريري في الصراع الإقليمي والدولي على المنطقة، وهي أساساً حصلت لفتح الساحة اللبنانية مجدداً أمام أتون هذا الصراع؟ وهل يمكن أن يستتب الأمن والاستقرار في لبنان في جو محاصرة السياسة الدولية جارته الكبيرة سوريا من دون أن ينجر لبنان إلى القلاقل والفتن، وخاصة عندما يحاول البعض توظيف لبنان لتشديد هذا الحصار وتعظيم مفعوله؟
عندما نسمع قوى المعارضة وفي شكل خاص حزب اللّه يتكلم بفصاحة عن الديموقراطية التوافقية بدلاً من الديموقراطية العددية التي كان يهدد بها في الماضي، فهل علينا أن نرفض مثل هذا الطرح الذي طالما رفعت شعاره قوى مسيحية مختلفة في تاريخ لبنان الحديث خوفاً من دكتاتورية أغلبية مسلمة على البلاد؟ هل علينا، كما يبدو من خلال منطق الفئة الحاكمة والمعجبين بها، أن نتحول فجأة إلى علمانيين عنيفين ونطالب بحكم الأغلبية، بغض النظر عن التوازنات الطائفية التقليدية، وكأن دستورنا وعقولنا أصبحت جميعها غير طائفية بين عشية وضحاها؟
هل أصبح فعلاً العماد ميشال عون مجرد أداة في أيدي سوريا وإيران، وكذلك رؤساء الوزارات السابقون من الطائفة السنية؟ وهل أصبحت الشخصيات المستقلة التي لا علاقة لها بأية سفارة أو دولة أجنبية أيضاً ألعوبة في أيدي أحمدي نجاد وبشار الأسد؟
هذه هي بعض المواضيع المهمة التي لا بد من طرحها في الظرف الراهن، معترفين بمسؤولية معظم قوى المعارضة منذ عام 1992 عن نجاح تسلّق فريق واحد إلى السلطة وممارسته دكتاتورية على البلاد منذ ذلك الحين عبر وسائل مالية وإعلامية مختلفة وشتى أنواع الإرهاب الفكري، يوماً تحت الراية السورية ويوماً تحت الراية الغربية. هذه المراجعة الضميرية لا بد منها لإنقاذ البلاد وتأسيس جبهة فكرية وسياسية تُفهم العالم أن شيئاً جوهرياً تغيّر في بلاد الأرز من حيث ستبوء بالفشل كل محاولات القضاء على معالم هذا البلد الحبيب وتراثه، المتنوع والغني بقدراته الإبداعية والطليعية، ومن حيث نعمل على بقاء لبنان وفياً لرسالته الكيانية وطليعةًًًًًً للتقدم والفكر والإبداع في المنطقة بما فيه كيفية الدفاع عن أرضه ومعالمه الحضارية أمام كل محاولات تشويهه وإخضاعه وتطويعه من دون أن يتمكن الأصدقاء أو الأعداء من النيل من عزيمتنا التي طالما بقيت أكثر من مرة في سبات عميق أو وعي منقوص.
* وزير لبناني سابق