إيلي نجم *
ظهرت الإمبرياليّة وقامت في تاريخ البشر، وكانت ذات وجه تجاريّ جشع (مركانتيليّ) قبل أن يقيم الرومان اللاتين إمبراطوريّتهم ويبسطون سيطرتهم على العالم القديم المعروف آنذاك، وهي الإمبراطوريّة التي فرضت ما عُرِفَ توريةً بـ”السلام الرومانيّ“. ذلك لأنّ مصدر مفردة ”الإمبراطوريّة“ ومفردة ”الإمبرياليّة“ التي اشتُقّت منها بفعل الاستخدام الواسع لمفهوم الإمبراطوريّة، هو فعل imperare اللاتينيّ الذي يقابله عندنا فعل أَمَرَ. وعليه، فالإمبرياليّة ظاهرة تاريخيّة طبعت في الماضي السحيق، ولمّا تزل، علاقات الشعوب والدول القديمة والحديثة بعضها ببعض، بالقَدْر الذي كانت تسعى فيه دولة مقتدرة إلى توسيع نفوذها السياسيّ والاقتصاديّ خارج حدودها، حتّى إن نجحت في مسعاها، راحت تفرض إرادتها وسلطانها على دولة أو دول أخرى تغدو تابعةً لها ومرتبطةً بها. فما العلاقة بين الإمبراطوريّة الرومانيّة والإمبرياليّة الحديثة ؟ وماذا عن الإمبراطوريّة والإمبرياليّة الأميركيّتين ؟
تمثّل الحقبة الرومانيّة مرحلةً أساسيّة ومفصليّة في تاريخ الغرب، مثَلها كمثَل الحقبة اليونانيّة والإغريقيّة التي سبقتها وأسّست لها، أو ربّما أكثر. يقول هايدغر، في صدد هذا الأمر، إنّ الرومان لم يكتفوا بطمر حقيقة الوجود (أو الكون) الذي كان لمّا يزل يتجلّى بعض الشيء في بعضٍ من أعمال أفلاطون وأرسطو، ودفنها وحسب، بل كان لهم النصيب الأكبر في نشأة الغرب الحديث وتكوينه. يقوم جوهر ”الرومانيّة“، بحسب هايدغر، على الإمبراطوريّة imperium في اللاتينيّة أو empire في الفرنسيّة والإنكليزيّة، أي على الأمر. وبالتالي، فقد قامت الحقيقة على الاستقامة أي على مطابقة ما انطوى عليه فعل الأمر الرومانيّ والتوافق معه، وقَصرَ الوجود عندها على واقع هذا الأمر الرومانيّ الذي غدا أمرًا واقعًا. ومنذ ذلك الوقت وربّما قبله، ارتبط تاريخ البشر، ولمّا يزل، بتاريخ الغرب، وارتسمت الأمور (ولعلّها ظهورات الوجود أو قلْ تجلّياته في الزمان) وفقًا لأوامر الحكّام الغربيّين وإرادتهم، والتي تعكس مصالح الشعوب الغربيّة وأهواءها.
على صعيد آخر، كان المنظّرون الماركسيّون قد رأوا في الإمبرياليّة الطريقة التي يجهد بوساطتها النظام الرأسماليّ الغربيّ للتغلّب على تناقضاته الداخليّة، وهي تناقضات قالوا إنّه يغلب عليها الطابع الاقتصاديّ البحت. ففي الوقت الذي رأى فيه لينين، مؤسّس الدولة السوفياتيّة، أنّ الإمبرياليّة، وهي ”المرحلة القصوى للرأسماليّة“، ارتبطت بالحاجة إلى امتصاص فائض الإنتاج، رأى بعض الماركسيّين الآخرين من أمثال روزا لوكسمبورغ أنّ الإمبرياليّة تبقى وليدة التوتّر الذي يتعاظم في الأنظمة الرأسماليّة بين الإنتاج والاستهلاك. ذلك لأنّها تقوم في جوهرها، بحسب لوكسمبورغ أيضًا، على توسّع الرأسماليّة باتّجاه أقاليم وبلدان جديدة ”غير رأسماليّة“، أي باتّجاه المستعمرات أو البلدان التي يسود فيها العمل الحِرفيّ والزراعيّ أو التي لم تنتقل بعد بالكامل إلى مرحلة التصنيع. وكان كارل ماركس قد ألمح في ”رأس المال“ (الكتاب الثالث) إلى أنّه ”كان على السوق أن تتوسّع باستمرار“ ليلحق الاستهلاك بالتوظيف والإنتاج والتصدير.
إلاّ أنّه ينبغي ألاّ تحجب هذه الرؤية لمفهوم الإمبرياليّة، والتي غلب عليها الطابع الاقتصاديّ، أبعاده السياسيّة الملازمة له، بل القائمة فيه. الواقع أنّ الكيانات السياسيّة المتنافسة (الدول أو الأمم أو اتّحادات الدول…) تتواجه وتتصارع لتأمين مصالح شعوبها وبسط نفوذ حكوماتها وحكّامها، وسيطرة ثقافتها وحضارتها خارج أراضيها، بحيث يسعى كلٌّ منها إلى إخضاع الشعوب والدول والأمم الأجنبيّة الأخرى والتسلّط عليها، فينهب مواردها الطبيعيّة وثرواتها الثقافيّة والحضاريّة والبشريّة. وتكون الغلبة لكيانٍ سياسيٍّ أو أكثر، فيستحيل إمبراطوريّة، ويغدو ”الأمر“ له في أكثر من مجال وميدان. أمّا بالنسبة إلى الإمبراطوريّة والإمبرياليّة الأميركيّتين، فالإحصائيّات تشير إلى أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة تمثّل اليوم خمسة بالمائة من مجموع سكّان العالم، إلاّ أن اقتصادها يمثّل ثلاثين بالمائة من اقتصاديّات العالم، كما أنّها تنفق على قوّاتها المسلّحة ما يوازي خمسين بالمائة من مجموع ما ينفَق في العالم أجمع في مجال التسلّح. ولقد استفادت هذه القوّة العظمى من مجموعة عوامل تضافرت لمصلحتها : تفكُّك الاتّحاد السوفياتيّ السابق في بداية التسعينيّات، وهو الأمر الذي خفّف الضغوط عن الموازنة الأميركيّة، وركود الاقتصاد اليابانيّ، وزيادة الإنتاجيّة في أميركا إلى حدٍّ لم يسبق له مثيل. كلّ ذلك أتاح للأميركيّين زيادة نفقاتهم العسكريّة إلى حدٍّ تساوت فيه ميزانيّتهم مع ميزانيّة الاتّحاد الأوروبّيّ والصين وروسيا مجتمعين.
يقول بول كينيدي، أستاذ مادّة التاريخ في جامعة يال الأميركيّة ومدير مؤسّسة الدراسات التي تُعنى بالأمن الدَوليّ، وصاحب كتاب ”نشأة القوى العظمى وأفولها“ (1988) إنّ هذه الإمبراطوريّة الجديدة تعمل اليوم على حفر لحدها بيديها، إلاّ أنّ الأمر يتطلّب بعض الوقت. في الواقع إنّ الإمبراطوريّة الأسبانيّة قد تطلّب أفولها مئتي عام، في الوقت الذي بدأ كتّاب إنكليز يتنبّأون بغروب إمبراطوريّتهم منذ 1860-1870. ومن جهة أخرى، يقول الخبراء الاقتصاديّون إنّ الاقتصاد الأميركيّ الراهن يضعف بسرعة قياسيّة في الوقت الذي يتعاظم فيه العجز في الميزانيّة. فإلى متى ستبقى هذه الإمبراطوريّة قائمة ؟
* كاتب لبناني