نظام مارديني *
في دراسة أعدّها مركز الأبحاث الأميركية، وكتبها «دون برانكاتي»، الأستاذ الزائر في مركز الدراسات الديموقراطية في جامعة برنستون، أن الفيدرالية أفضل طريق لصيانة وحدة العراق، لكونها تمثّل أساساً مناسباً لتقسيم السلطة بين العراقيين على مستويين، المستوى المركزي عبر إقامة حكومة شراكة بين المكوّنات العراقية، وعلى المستوى الإقليمي بمنح هذه المكونات صلاحيات واسعة في إدارة شؤون أقاليمها. وتدعو هذه الدراسة الى «أن تصميم فيدرالية خاصة بالعراق سيؤدي الى بناء ديموقراطية مستقرّة فيه».
محاصصة طائفية ــ إثنية
فالفيدرالية في رأي «برانكاتي»، إذاً، هي الضمانة الوحيدة لمنع الصراعات الإثنية والمذهبية، إذ إنها تنطلق من نظرية المكونات الثلاثة، التي تتعرض لنقد واسع من قبل العديد من الدوائر السياسية والاستراتيجية العراقية والإقليمية والدولية لكونها انتهت الى طريقة لتقاسم السلطة على أساس المحاصصة الطائفية التي يعزو الكثيرون إليها التوترات الحالية في العراق والتي تهدد بانزلاق البلد الى حرب أهلية واسعة النطاق.
ولكن لم تنتبه هذه القراءة الى أن تقسيم العراق لن يخدم المصالح العراقية ولا حتى الأميركية، والسبب في ذلك أن العراق لا يملك خطوطاً واضحة تقسّم المجموعات الإثنية على أساسها. أي لم يحصل قط إحصاء سكاني فعلي في العراق يُظهر كيف تقسّم الجماعات السنيّة والشيعية والكردية والتركمانية والأشورية، أو أين يعيشون. إذ إن العمليتين الانتخابيتين اللتين أجريتا منذ احتلال العراق في نيسان 2003، أظهرتا أن هناك جماعات (أقليات) في كل مدن العراق ومحافظاتها الثماني عشرة.
من هنا، فإن أي مسعى لتقسيم العراق حول خطوط مذهبية وإثنية يتطلّب «إعادات تموضع» واسعة النطاق. وعلى الأرجح أن هذه العملية ستكون عنيفة وستؤدي الى إفقار الأشخاص الذين سيرُغمون على مغادرة مناطقهم، وستخلّف إرثاً من الخوف والكراهية، وتؤجل أكثر فأكثر المعافاة السياسية والاقتصادية في العراق.
علاوة على ذلك، يتركز السكان في المدن العراقية حيث يعيش نحو أربعين في المئة منهم في منطقتي بغداد الكبرى والموصل المتعددتي الإثنية. رأينا في إيرلندا الشمالية والبلقان كم يصعب تقسيم المدن. ونظراً الى الخدمات المركزية والفاشلة والى الاقتصاد المستنزف في العراق، لا يمكن فصل العنف عن علم الاقتصاد. إذ من شأن اتخاذ قرار في شأن الجزء الذي يجب أن تنتمي إليه كركوك، وهي مدينة نفطية أساسية، أن يؤلّب الأكراد على بقية المجموعات العراقية. ومن شأن مرفأ البصرة الذي يقع الآن تحت سيطرة الميليشيات الإسلامية «الشيعية» أن يخسر كل طابعه العلماني إذا قسّمت البلاد.
بالإضافة الى ذلك، لا يمكن تقسيم العراق من دون تقسيم الجيش والقوى الأمنية والشرطة، وخصوصاً أن الجيش يتألف في غالبيته من الشيعة الآن، مع عدد كبير من الأكراد. والقوى الأمنية التابعة لوزارة الداخلية «شيعية» في معظمها، وتختلط الشرطة اختلاطاً كاملاً بالميليشيات والقوى الأمنية المحلية التي تنقسم حول الروابط القبلية والمذهبية والإثنية المحلية. يعني تقسيم العراق في شكل أساسي تقسيم الجيش والقوى الأمنية وتعزيز الميليشيات ــ وهذا كله من شأنه أن يؤدي الى المزيد من العنف. وبالتأكيد، ليس هناك من وسيلة لتقسيم العراق من دون إطلاق نزاعات على السيطرة على النفط. تشكل الصادرات النفطية أكثر من تسعين في المئة من عائدات الحكومة العراقية. لا يملك القسم الغربي المؤلف من عرب «سنّة» حقول نفط مستثمرة، ولن تكون لديه تالياً عائدات نفطية. يريد الأكراد حقول النفط الشمالية لكن لا حقوق شرعية لهم عليها وليس لديهم أي سبيل فعلي لتصدير النفط الذي ينتجونه (لدى جيرانهم إيران وسوريا وتركيا سكان أكراد عُصاة أيضاً، وليست لديهم مصلحة تالياً في مساعدة أكراد العراق على الحصول على حرية مستقلة بنفسها). ومن شأن السيطرة على البصرة أن تسبب مشكلة أيضاً حيث تسعى مجموعات شيعية عدة الى فصل النفط في الجنوب والسيطرة عليه. وقد تمتد مفاعيل هذه الانقسامات الى بقية الشرق الأوسط والعالم العربي، ما يهدد باندلاع نزاعات محلية وبحصول توتر ديني من النوع الذي يغذي التطرّف الإسلامي.
المطابخ الخارجية
إن المخاوف الحقيقية من قضية الفيدرالية ليست خوفاً من موضوع له مساس بالديموقراطية أو هو رغبة في الديكتاتورية أو هو إصرار على الاستحواذ على الواردات.. لا، بل هو في الحقيقة لا سواها خوف حقيقي مرتكز على أسس تاريخية نابعة من طبيعة المطالبين بها، من أن يكون أقرب الطرق الى الانفصال، وبالتالي تفتيت العراق الذي سيكون بعد تفتيته النموذج الفريد لتغيير جغرافيا المنطقة دونما عناء يذكر. الفيدرالية واحد من المواضيع التي تم طبخها خارج الحدود في ما يخص جميع المطالب والدعوات باستثناء مطالب الأكراد الذين أقرت لهم حكومة البعث الفيدرالية في بداية سبعينيات القرن الماضي. وفي تطور سياسي من شأنه أن يقلل من حالة الاحتقان السياسي في الشارع العراقي ويعيد الموضوع الى تسلسلات مؤجلة نوعاً ما، قرر قادة الكتل السياسية الذين يواصلون اجتماعات حثيثة لقرب استحقاقات تطبيق الفيدرالية وفق رؤى الدستور المريب الذي وضع للعراق عقب الاحتلال، قرروا تأجيل تطبيق الفيدرالية لمدة 18 شهراً.. فهل يعتبر هذا الإجراء أو الاتفاق كافياً لإفراغ موضوع الفيدرالية من خطورته الوطنية والقومية أم هو اعتراف من القوى جميعها بأنه لا أحد منهم يملك على وجه التحديد القدرة على استحواذ أمر الفدرالية في شكل مطلق من دون موافقة أو مهادنة بقية الأطراف؟
كونفدرالية.. لا فيدرالية
فالفدرالية، بما هي اتحاد، ليست مشكلة. وثمة بلدان في العالم تزداد فيها مكونات الفيدرالية بزيادة عدد الكانتونات وذلك لتسهيل حياة الناس وتعزيز الديموقراطية وتوثيق التواصل ما بين المواطن ودولته. هذا ما يحدث في سويسرا مثلاً، وفي ألمانيا. أما الفيدرالية التي يُحكى عنها في العراق فلا صلة لها بـ«الاتحاد» بمعناه الدستوري والسياسي بل هي في جوهرها كونفدرالية. وإذا كان الرباط الاتحادي يعزز وحدة الدولة، فإن الرباط الكونفدرالي يتم بين دول مستقلة تقيم في ما بينها «تحالفاً».
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن العلاقات ما بين الكيانات «المتحدة» ــ سواء كان اسمها «ولايات» أو «أقاليم» أو غير ذلك ــ ينظمها الدستور، أي «القانون الأساسي» للدولة الاتحادية. فيما العلاقة ما بين الكيانات المتحالفة ــ أي الكونفدرالية ــ تنظمها معاهدات تخضع لأحكام القانون الدولي العام.
إن طبيعة الحياة تجعل الكيانات المستقلة تقيم في ما بينها «أحلافاً» ــ أي يرتبط بعضها ببعض برباط كونفدرالي ــ وحين يتعزز تحالفها فإنها قد ترتئي أن من مصلحتها توثيق عرى العلاقات في ما بينها أكثر فأكثر فتترجم ذلك بالانتقال تدريجاً من الكونفدرالية الى الفيدرالية، أما حين يحدث العكس تماماً، كما هي الحال اليوم في العراق، حيث بدأ الانتقال من «الدولة البسيطة» ــ بالمعنى الدستوري ــ الى «الدولة المركّبة» ــ بالمعنى الدستوري أيضاً ــ تحت عنوان «فيدرالية» فيها الكثير من خصائص «الكونفدرالية» فمعنى ذلك أن الوحدة السياسية للدولة تتجه نحو الانفراط.
والانفراط، كما هو حاصل في التجربة العراقية، هو مقدمة لحروب بين الكيانات الوليدة، ناهيك عن كونه مجالاً لموجات من «التطهير العرقي» الذي يلبي رغبات الغرائز. هذا ما تشير إليه المطالب والمطالب المضادة، بين مختلف مكونات «دستور غرينستوك»، وخصوصاً على صعيد صلاحيات «الأقاليم» و... ممتلكاتها. ولعل أخبث أشكال الكونفدرالية تلك التي تنتحل اسم الفيدرالية. فتحت هذا العنوان تمر كل الكوارث.
هذه الحقائق تجعل الأوروبيين في حالة عجز عن الاعتراض على المخطط الأميركي الإسرائيلي، وخصوصاً أن التداعيات الإقليمية للانفجار العراقي الكبير لن تترك لأوروبا مجالاً لتلتقط أنفاسها.
* كاتب سوري