عبد الإله بلقزيز *
لم يُخف زياد الرحباني انحيازاته السياسية والثقافية منذ أطلَّ فنياً قبل ثلث قرن: ممتشقاً لغةً جديدةً غير مألوفة في مجال الإبداع الموسيقي والغنائي والمسرحيّ. باحَ بتلك الانحيازات بوحاً مدوّياً وهو يخطو خطوته الأولى نحو مرحلة الشباب المبكّر من دون أن يستأذن التقاليد الرحبانية العريقة في البوح النقديّ المحسوب الذي لا يقتل الذئب ولا يُفني الغنم، ومن دون أن يُلقي بالاً الى حرصها على الإمساك بالعصا من الوسط لبناء اجتماع لبنانيّ حول خطابها الفنيّ. غامر زياد بأخذ العصا من الطرف اليسار، فنجح في المغامرة. ولم تكن هي إلاّ برهةً قليلة حتى كان يقتحم قلاعَ اللبنانيين جميعاً: من شاطروه ثورته وتمرّده ورأوا فيه لسان حالهم وحال جيلهم أو نظام قيمهم، ومَنْ حافظوا على مواقعهم في السياسة والاجتماع والثقافة... لكنهم ما وجدوا سبيلاً الى التخلّص من جاذبية وإغراء النموذج الفني الذي زَحفَ به زياد الى عُقر ديارهم فملكَ عليهم النفس، أو «اختطف» ذائقة أولادهم من «براثنهم» في أقل تقدير.
كان الذي أخرجه الى الدنيا (عاصي) رجل المصالحات الفذة، بل الذاهبة أحياناً الى حدود المستحيل: المصالحة بين تراثنا الموسيقي والغنائي والتراث الموسيقي العالمي، بين مختار القرية أو رئيس البلدية أو ضابط المخفر والأهالي، بين الحاكم المستبد والثوار، بين المجتمع القديم وقيم الضيعة والعالم المعاصر... إلخ. لم يأخذ زياد من والده العظيم إلاّ مصالحةً واحدةً ارتضاها لنفسه ولفنّه: المصالحة بين موروثنا الموسيقي والتراث الموسيقي الإنساني. بزّ المأخوذين بالحداثة الموسيقية بزّاً حين حاور الجاز وحوّره، وأخذ فكرة الأصالة الى أصالتها (التجديدية التأسيسية) حين بنى على تراث سيد درويش وخاتل الشيخ زكريا أحمد من دون أن يتماهى معه وثاقف آخر سلالة الكبار الشيخ إمام عيسى. تمرّد على الموروث وتمرّد به، وكذلك مع الحداثة فعل. ولم تكن مصالحته بين النظامين الموسيقيين تلفيقاً، كانت خلطةً كيميائية فريدة لم تكن عبارة «الجاز أوريونتال» مثلاً إلا شكلاً من التعبير عن معادلتها التركيبية المعقدة... ولكن الجذّابة.
ما كان يمكنُ زياداً أن يكون إلاّ كما كان: ضابط الاتصال بين المحليّ والعالميّ في الموسيقى. هكذا هو في المسرح، ولعله كذلك في الحياة. من يؤلّف بين مفردات قاموس الأحياء والزواريب ــ فيبتعث منها ما كان في حكم المنسي أو المندثر ــ ومفردات قاموس الماركسية والفوضوية (في النص المسرحيّ وفي النص الزجليّ) لا يعسرُ عليه أو يستعصي أن يؤلّف بين العتابا والبشارف والقدود والتأليف الأوركسترالي الحديث مروراً بإيقاعات الجنون الأفريقي المسروق من أهله الشرعيين والنازح الى أميركا مع موجات العبيد التي لم تنقطع.
تلك هي المصالحة (الموسيقية) الوحيدة التي ورثها من تركة والده الفذّ والنادر: عاصي، أما دون ذلك، فالتمرد على كل شيء: السلطة والمجتمع ونسق العلاقات العامة ونظام القيم واللغة المعقمة. كذلك، وكذلك ألفناه مسرحاً منذ «سهرية» و«نزل السرور» و«شي فاشل» الى «بخصوص الكرامة...» و«لولا فسحة الأمل» مروراً بدرّة الدرر («فيلم أميركي طويل»). وكذلك ألفناه في «هدوء نسبي» و«أنا مش كافر» و«بما إنّو» موسيقى وغناءً. وليس يستعصي على القارئ في أعماله الفنية (الغنائية والموسيقية والمسرحية) ان يعثر على قرينة الانحياز والتمرد لدى زياد. حتى في سخريته المحكية الممتدة منذ ثلاثين سنة: منذ «بعدنا طيبين» حتى اليوم، تجد الكثير من الإخراج الفني للنقد السياسي والاجتماعي اللاذع الذي لا يوفر مقدساً أو حرماً، والذي يشي بانحيازاته غير القابلة للتأويل.
لكن زياداً ما اكتفى بإشهار انحيازاته السياسية والاجتماعية من خلال الفن والإبداع حصراً، بل أرادها أكثر جهرةً ومباشرة مما كانته قبلاً وهي تعرض نفسها في صور من التعبير الفني حارّة ولذيذة. أرادها عارية من الترطيب والتطرية الفنيين المعتادين. لذلك نقلها (الانحيازات أعني) من لغة المسرح والغناء الى لغة السياسة. من القصيدة والديالوغ المسرحي الى المقالة السياسية.
أشغف كثيراً بقراءة زاوية زياد الرحباني في «الأخبار» بقطع النظر عن أني أتفق معه أو أختلف في الموقف أو في حدّة التعبير عنه. لكني أدمنت زاويته استشفاءً من مرض لازمني هو ضيق النفس من ظاهرة إضراب الأدباء والفنانين عن التعبير عن الموقف السياسي المباشر بتعلة النأي بالأدب والفن عن المباشرية في التعبير لصون نقاوة الكلمة الإبداعية واللغة الفنية من الابتذال اليومي، أو بتعلّة اشتغالهم اشتغالاً إبداعياً خاصاً على الشأن السياسي في ما يكتبون ويؤلفون ويرتفع نصاب ذلك الشأن فيه عن سوية المقاربة السياسوية الفجة.
أشاطرهم رأيهم في وجوب ارتفاع الأدب والفن عن لغة السياسة المباشرة لكني أفهم أن الأديب والفنان (والباحث والأكاديمي...) مواطن في المقام الأول قبل ان يكون «شيئاً» آخر: فإذا جاز له أن يرتفع في عمله الإبداعي عن لغة السياسة، وهو يجوز، فلا يجوز له أن يترفع عن السياسة في الحياة وإلاّ كان إضرابه عنها موقفاً سياسياً في حد ذاته، أي تعبيراً غير مباشر عن انحيازات سياسية للقوى التي تنظم الصمت أو تدق إسفيناً بين الناس وبين الشأن العام. ثم ما الذي يتضرّر منه أدب أديب أو فن فنان إن كتب رأياً سياسياً؟ إنه لا ينطلق في ذلك من داخل نطاق الإبداع بل من داخل نطاق المواطنة. وللمواطن حقوق وأولها إبداء الرأي في الشأن العام.
يعجبني في زياد شجاعته في قول رأيه، وهي كانت دوماً من سجاياه في نصوصه المسرحية والغنائية. ويعجبني أكثر طرافته في الكتابة، في العناية بما وراء الكلمة الواحدة من إيحاءات شتى أو بما وراء المفردة من مُفترضات. وراء لغته رجلٌ لمّاحٌ لمّاع، على درجة من الذكاء الفائق، ومن البساطة الصعبة التي وصفها القدماء بـ«السهل الممتنع». كذلك هو في أغان ستدخل في الذاكرة الى «الأبد».
زياد ضمير جيل، ضمير حقبة، ضمير فكرة. و«هيدي مش غنية، هيدي بس تحيّة».
* أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني ــ المغرب