كرم الحلو *
بعد قرنين على بدء نهضتنا الحديثة، لا يزال المثقف العربي عالقاً في الإشكال التاريخي إياه، ذلك الذي ميّز مرحلة النشوء والتكوين، والذي أبرز ملامحه جدل الوطن والحرية: البقاء في الوطن والقبول بالاستبداد والطاعة والامتثال للمستبد، أو الاغتراب إلى وطن آخر حيث العدل والكرامة والحرية، ولو كان ذلك ثمنه النفي الذاتي والاقتلاع من الجذور.
هنا تكمن معاناة المثقف العربي المعاصر. غربته تلاحقه من الوطن إلى المنفى دون أن يجد سبيلاً للخلاص من اغترابه، اغتراب سياسي واجتماعي وفكري في الوطن، واغتراب قومي خارجه.
هذا الجدل القديم المتجدد لا يزال مستمراً في الفكر العربي الراهن، مستعيداً صوره المعهودة منذ القرن التاسع عشر، مروراً بالقرن العشرين. ففي أحدث الإصدارات يقدم حليم بركات في «الاغتراب في الثقافة العربية» 2006، صورة حية ومعبّرة عن معاناة المثقف العربي المغترب، إذ يقول: «أحب شجرة الصفصاف لأنها تنكفئ على ذاتها وجذورها. كلما كبرت في العمر انحنت أغصاني على جذوري... لكنني أعرف أن العيش في الوطن يتطلب امتثالاً. ما يزال تعدد الأصوات غير مقبول في الوطن، والاختلاف ليس حقاً، بل نشوز، وفسحة التحرك محدودة، والإبداع بدعة، والانتماء ذو بعد واحد. لذلك لا أعرف حقاً أيهما أشدّ قسوة: المنفى أم الوطن؟».
لكن المثقف العربي يؤثر الحرية على الاستبداد ولو من المنفى، وبعيداً عن الوطن والديار. في «مدخل الى فكر التنوير الأوروبي» 2005 يقول هاشم صالح المقيم في باريس منذ أكثر من ثلاثين عاماً: «كان من حسن حظي أن وطأت قدماي هذه الأرض الطيبة المحررة من الفقه الظلامي الذي يفتك الآن ببلادي فتكاً ذريعاً».
لكأن هذا الموقف استعادة لموقف المفكر والأديب النهضوي فرنسيس المرّاش لدى وصوله إلى باريس قبل مئة وأربعين عاماً، إذ قال معجباً بجو الحرية والأمن السائد فيها: «كم تستميل الإنسان هذه الديار التي تمنح أمناً غير مثلوم، وحرية غير مأسورة، وحياة غير مهددة ولا مذعورة». وكان المراش قد قال في قصيدة قبل سفره الى هذه المدينة: «اذا رأيت الوغد يحكم في أرض فهل تلبث فيها مقيم. إن بلاد الله واسعة فاختر لسكناك المحل السليم».
وفي كتابه «أديب» عبّر طه حسين بأسلوب أدبي رمزي عن جدل الوطن والحرية، يقول: «اُنفذ الى أعماق الهرم الأكبر. فستضيق فيه بالحياة، وستحسّ اختناقاً. ثم اخرج واستقبل الهواء الطلق الخفيف. واعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم، وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق».
ونجد لدى ياسين الحافظ نموذجاً معبّراً عن جدل الحرية والمنفى، إذ يتحدث عن مشاعره وتساؤلاته أثناء إقامته في باريس فيقول: «كنت أذهل عندما أرى قوة الفرد وثقته بنفسه وتحرره الكلي من مختلف أشكال الخوف. هناك الفرد ديك، هنا الفرد دودة، هناك العنفوان وهنا الوداعة. هناك الشك والتساؤل والنقد، وهنا اليقين والتلقين والامتثال. وعندما كنت أتساءل من أين هذه القوة التي للفرد الغربي، كان الجواب يقفز: لأن بلاده كفّت أن تكون بلاد الخوف. في ديارنا العربية تتعاور الفرد أشكال لا تحصى من الخوف».
هذه النماذج من معاناة المثقفين العرب المعاصرين تكشف الخلل العميق في واقعنا العربي إذ لا تزال ثمة فجوة شاسعة تفصل بين انتمائنا إلى أوطاننا وبين انتمائنا الى عصرنا وإنسانيّتنا. فالانتماء إلى الوطن في ظل أنظمة الاستبداد العربية يفرض الامتثال والتنازل والإذعان، والانتماء الى عصرنا وإنسانيتنا لا يستقيم من دون الالتزام بالحرية وبحق الفرد في التفكير والشك والنقد والتساؤل والتفرد. وما لم تتم المصالحة بين الوطن والحرية، سيظل الإنسان العربي يتطلع خارج أمته بحثاً عن نافذة أمل، لكن ذلك لن يكون حلاً لمأزقه، بل لمزيد من اغترابه ولبقاء أبواب المنفى مفتوحة أمامه. إن خلاصه في النضال من أجل تحرير أمته من استبداد طغاتها وإجبارهم على الاعتراف بحقوقه الإنسانية المهدورة، ومنها حقه في العدالة الاجتماعية وحقه في المشاركة في الحياة السياسية باختيار نظام ديموقراطي يقوم على حرية التعبير والنقد والرفض ويخضع للمراقبة والمحاسبة والمساءلة. فلا حرية للعربي إلا في أمة حرة ووطن حر مهما كلف ذلك من جهاد وتضحيات. وما عداه ليس إلا الاغتراب والانسلاخ عن الذات والتنازل عن الانتماء.
* كاتب لبناني