ليلى نقولا الرحباني *
خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان، صرّح السفير الاسرائيلي في واشنطن «داني أيالون» قائلاً «حتى لو ارتكب جيشنا مجازر جماعية في لبنان، فسيبقى دعم الولايات المتحدة لنا كما هو». فما هو سر هذا الدعم الأميركي المطلق وكيف بدأ؟
إن حجم الدعم الأميركي المالي والعسكري والتكنولوجي والسياسي لإسرائيل تطور على نحو بالغ منذ منتصف ستينيات القرن الماضي أي في عهد الرئيس «ليندون جونسون»، الذي وصل الى الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية بعد اغتيال الرئيس «جون كينيدي» في تشرين الثاني 1963. وكان وصول جونسون نقطة تحوّل رئيسية في تاريخ العلاقات الأميركية ــ الاسرائيلية التي شهدت توتراً كبيراً في عهد الرئيس «أيزنهاور» الذي اتخذ موقفاً سلبياً من الهجوم الثلاثي على مصر عام 1956. كان لموقف أيزنهاور الرافض للعدوان على مصر، والذي أجبر الاسرائيليين على الانسحاب من سيناء، أثر كبير على التخطيط الاستراتيجي الاسرائيلي، فقد أدرك الاسرائيليون في ذلك الحين أنهم لن يستطيعوا التحرك بحرية، وفرض شروطهم في الشرق الأوسط، إلا إذا ضمنوا التأييد «الأميركي» في شكل كامل، وأن «أولوية الدور الأميركي» سوف تزداد أكثر فأكثر مع أفول عهد الاستعمار الأوروبي القديم.
مع جونسون بدأ زمن الرؤساء الأميركيين الذين يؤمنون بمبدأي «التوافق الاستراتيجي الكامل» و«توافق المصالح التام» بين واشنطن وتل أبيب، بحيث أصبح من المستحيل التمييز بين سياستيهما الخارجيتين. واستمرت العلاقات مستقرّة على هذا المنوال، الى أن وصل الدعم الاميركي لإسرائيل الى ذروته في عهد الرئيس رونالد ريغن، من حيث تحولت جميع المساعدات الأميركية الى اسرائيل «هبات» وذلك ابتداء من منتصف ثمانينيات القرن العشرين، وما زالت مستمرة لغاية يومنا هذا. وتوسعت هذه المعونات والهبات في شكل كبير حتى باتت تشكل سنوياً أكثر من ربع برنامج المعونات الخارجية الأميركي للعالم أجمع.
ويعتبر بعض الباحثين أن ما يصل الى اسرائيل سنوياً من مساعدات مادية أميركية رسمية وخاصة، يفوق برنامج المعونات الأميركي للعالم أجمع، بالإضافة الى حصولها على أدق أسرار التكنولوجيات الأميركية عبر علاقات التبادل العلمي بين البلدين، وخاصة في المجالات العسكرية والنووية.
وهكذا يُعتبر وصول «رونالد ريغن» الى الحكم في الولايات المتحدة الأميركية المنعطف الثاني الأهم في العلاقات الإسرائيلية ــ الأميركية، من حيث سيطرت اللوبيات اليهودية على مفاصل السياسة الخارجية الأميركية وعلى مجلسي الكونغرس والشيوخ الأميركيين.
ــ ما الذي يجعل اليهود بهذه القوة والنفوذ في أميركا؟
يحتل اليهود الأميركيون مركزاً مرموقاً في النخبة الأميركية، الاقتصادية منها والثقافية والإعلامية، فهم يشكّلون أكثرية ثرية متعلمة، منظّمة ومتحركة، بالإضافة الى وجودهم القوي في قطاعات التعليم والثقافة والإعلام ودور النشر والسينما، وفي قطاع الخدمات وسواها. ويُعتبرون من الفئات الأكثر اهتماماً بالسياسة الداخلية وأهمها الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس، والخارجية وخاصة كل ما يمت الى قضايا الشرق الأوسط بصلة. ويوفّر لهم هذا الاهتمام قدرة على التأثير تفوق الى حد بعيد عددهم الديمغرافي في الولايات المتحدة، وذلك بسبب ما هو معروف عن المواطن الأميركي العادي من عدم اكتراث للشأن السياسي وعدم إلمام كافٍ بالسياسات الخارجية.
ويُلاحظ أن لدى التنظيمات اليهودية الأميركية واللوبي اليهودي في واشنطن، شبكة من العلاقات العامة والاستخبارات والقوة الاقتصادية والاعلامية والانتخابية، التي يوظفونها من أجل باقة من الأهداف الثابتة على مر السنين، أهمها:
توفير الدعم المادي لإسرائيل عبر مؤسسات الدولة الأميركية والمجتمع المدني الأميركي، تقديم المساعدات العسكرية والتكنولوجية في أزمنة الحرب كما في أزمنة السلم، توفير الغطاء السياسي الأميركي لكل ما تقوم به اسرائيل، وإدخال العامل الاسرائيلي الى مجمل سياسات أميركا الخارجية.
وللتوصل الى هذه الأهداف، تُباح كل الوسائل المتاحة منها: «المال اليهودي»، «صنع الأفكار وترويجها الاعلامي»، «الصوت اليهودي الانتخابي»، إضافة الى سياسة الثواب والعقاب المطبّقة على من لا يماشي اللوبي اليهودي، والتي تندرج فيها كل أساليب الإثراء والإفقار والترهيب والترغيب والترقية والمحاصرة، وفي هذا المجال يقول «بول فندلي» الذي أمضى 22 سنة في مجلس النواب الأميركي، «إن السياسيين والمفكرين والجامعيين والصحافيين يفعلون كل ما في وسعهم لعدم ظهور أسمائهم ضمن «قوائم الأعداء» التي يُصدرها اللوبي اليهودي في أميركا، ومنها اللائحة المسماة «الحملة لتشويه سمعة اسرائيل» التي يصدرها اللوبي اليهودي الأكثر شهرةً في الولايات المتحدة «إيباك».
تقوم اللوبيات اليهودية الفاعلة في أميركا وتكتسب قوتها من المجتمع اليهودي الثري المتمركز داخل أميركا والمتسم بـ«ازدواجية الولاء» للدولة الأميركية واسرائيل.
أما أكثر ما يتميز به هؤلاء فهو «الشعور العميق بالتضامن» مع الدولة العبرية. ويرتكز هذا الشعور على «عقدة ذنب تاريخية» تقوم الأجهزة الصهيونية باستغلالها الى أقصى الحدود، وتنبثق «عقدة الذنب» هذه من عوامل عدة أبرزها:
أولاً: لطالما شعر اليهود الأميركيون بالتقصير حيال اليهود الأوروبيين إزاء ما حصل لهم في زمن «الهولوكوست النازي»، وبالتالي هم لا يريدون لهذ التقصير أن يتكرر مع اليهود المقيمين في اسرائيل والمحاطين «بأعداء إرهابيين يريدون إبادتهم» كما تسوق الدعاية الصهيونية في العالم.
ثانياً: يريد اليهود الأميركيون توفير ظروف معيشية أفضل لليهود القاطنين في اسرائيل، وألا تتكرر معهم المأساة التي حلت بالهاربين من أوروبا، الذين عاشوا في «غيتوهات فقيرة مذلّة» في أميركا، وقد طال بهم الزمن حتى استطاعوا الانخراط في المجتمع اليهودي الأميركي، وهو ما حصل تماماً مع اليهود «الفلاشا» القادمين من إفريقيا الى دولة اسرائيل، حيث يُعتبرون «مواطنين من الدرجة الثانية».
ثالثاً: لا يود اليهود الأميركيون مغادرة أميركا للإقامة في اسرائيل، بل يتمسكون بحياتهم الأميركية «الآمنة» و«المستقرة»، ما يخلق لديهم شعوراً بـ«الدَين» تجاه يهود اسرائيل، ويدفعهم الى التعويض من ذلك بمختلف أشكال الدعم والمساعدة والتحرك من أجل «استقرار» الدولة العبرية الأمني والاقتصادي.
هذا هو واقع الدعم الاميركي لاسرائيل، فهل يجد فريق «السلطة الحاكم اليوم» أن دعم الادارة الأميركية لهم مشابه، أو في الحد الأدنى متقارب مع دعمها لإسرائيل؟
الأكيد أن «التلازم الاستراتيجي الكامل» بين الأميركيين والاسرائيليين، يقطع الطريق على أي دعم كافٍ قد تقدمه الولايات المتحدة للبنان، إذ إن الصراع بين لبنان واسرائيل لا يمكن اختصاره بالصراع العسكري، بل يمتد الى صراعات أخرى، وأهمها الصراع الثقافي والاقتصادي، والصراع على المياه التي يسرقها الاسرائيليون على مرأى من السلطات اللبنانية. يخطئ من يتوقع من اللبنانيين أن الأميركيين سوف يولون المصلحة اللبنانية اهتمامهم الأكبر، ويخطئ أكثر من يعتبر ان تقاطع المصالح اللبنانية ــ الأميركية في وقت من الأوقات سوف يجعل الإدارة الأميركية «صديقة للبنان»، ففي السياسة بين الدول قول معروف «لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة».
* كاتبة وباحثة لبنانية