فؤاد خليل *
هناك ولا شك نتاج بحثي يكاد أن يكون موسوعياً، حول مفهومي الطائفة والطائفية في لبنان... وفي ذاك، تكمن دلالة تعبّر عن عمق الظاهرة الطائفية وتجذرها وعن شمولها وقدرتها الفائقة على التجدد في ميادين شتى. وهو ما يجعلها موضوعاً راهنياً باستمرار على جدول اعمال البحث والكتابة. كما تعبّر في جانب آخر، عن اختلاف الرؤى المنهجية وتعدد الاتجاهات النظرية والايديولوجية لدى الدارسين والباحثين. لكن، أياً يكن الامر، فإن النتاج المذكور يمكن أن يصنّف في ثلاث رؤى: جوهرانية (ميتافيزيقية) وتاريخية، وبنيوية.
هنا، سوف تقدم المقاربة المتن الاصلي لكل رؤية، أي قوامها النظري الاساسي. ثم نخلص الى رؤية سوسيولوجية تحاول أن تضيف جديداً معرفياً، أو قولاً مختلفاً في الطائفة والطائفية...
1ــ في الرؤية الجوهرانية، الطائفة هي كيان مستقل قائم بذاته كأنها جوهر ماهوي لا تتغير طبيعته او تتبدل مع تغيّر الظروف والاحوال. وما دامت الطائفة كذلك، يغدو من الطبيعي ان تتعايش او تتشارك مع الطوائف الاخرى من موقع تجاوري يحفظ كيانها المستقل، او يصون جوهرها الخاص؛ مثلما يغدو بديهياً ان يعرّف لبنان بأنه بلد اقليات طائفية متشاركة. وبالتالي ان تعرّف الطائفية، بأنها ضمان تمثيل سياسي واجتماعي لتلك الاقليات، او نظام حكم الطوائف على قواعد عادلة ومتوازنة. وتبعاً لذلك، يتجوهر الكيان اللبناني، بمعنى أنه يتحدد في النظر الميتافيزيقي او الماهوي كمجتمع طائفي له طبيعة الاشياء، وهي ما ترجع في اصلها الى ماهية الطائفية بالذات. ومع تحديد كهذا، لا يعود يلائم الكيان الا نظام سياسي يعكس طبيعة مجتمعه الاصلية، اي نظام طائفي يضمن المشاركة بين طوائفه ويكفل تعايشها بوصفها جواهر او ماهيات خاصة، أو أشكالاً حضارية مختلفة.
تلك هي فلسفة الصيغة القائمة على العيش المشترك بين الطوائف. وفي ضوئها، كان الفكر الطائفي إبان الجمهورية الأولى، يربط عضوياً بين الكيان والطائفة والنظام، ويرى أن كل تغيير في بنية الاخير، يمسّ بالضرورة وجود الكيان والطائفة في آن..
قد تكون هذه الرؤية قد تقادمت، او فقدت من فعلها الايديولوجي كما كان عليه من قبل. لكن ما لا يستطيع أحد أن ينكره، أنها ما لبثت تحضر بكيفية او بأخرى لدى أوساط فكرية أو سياسية من مشارب وانتماءات متعددة. فهناك من لا يزال يبرز الطائفية ويعدّها صنواً للبنان او نمطاً حياتياً لأبنائه، ومن يسوّغ نظام الطائفية السياسية، وينافح عن استمراره بذريعة من هنا أو بحجّة من هناك، ومن يختزل التنوع الثقافي بالعنصر الطائفي، ومن يظن أن الطوائف تنتج توازناً عادلاً فيما بينها... إن كلّ نموذج من هؤلاء يعكس بقدر ضئيل او كبير، تأثير الرؤية الجوهرانية في قواعد تفكيره وأبعاد خطابه، كما في طبيعة نظرته الى أزمة النظام الطائفي الحقيقية...
2ــ وفي الرؤية التاريخية، الطائفة هي نتاج مسار طويل عاد به البعض الى زمن الدولة العربية الاسلامية، وراح يفتش في ذاك التاريخ عن أسباب تشكل الظاهرة. فوجدها تتجسّد بالدرجة الأولى في عنصرين: الدين والحضارة. لذا كانت الطائفة في نظره، جماعة دينية، ــ اقلية في الغالب ــ ذات انتماء حضاري متمايز عن سواه مما يعود الى الجماعات الاخرى. وكانت الطائفية، عصبية الولاء الى هوية تلك الطائفة. كما رجع البعض الآخر الى زمن الامارة في جبل لبنان، وراح ينقّب في عوامل تفكّك بُنى السلطنة العثمانية. وقد ركّز على اثنين: نظام المِلل والخارج الاستعماري؛ وعثر فيهما على علّة تشكل المسألة الطائفية في لبنان. فرأى أن الآلية العامة لتفسّخ ذاك النظام، انتجت الطائفة «كملّة حديثة» يتصف بناؤها بالتلاحم العضوي، وبنوع من الانغلاق على الطوائف المختلفة عنها في الانتماء الديني. ثم استنتج في ضوء الآلية ذاتها، أن الطائفية هي احدى ركائز التجزئة التي فرضها الخارج، أو أحد عوامل التفكيك الداخلي للبنية الاجتماعية العامة...
هذه الرؤية، لا تزال ذات حضور فاعل لدى قسم واسع من اهل الفكر والثقافة. فمن يطلع على مواقف البعض من هؤلاء وآرائهم، يجده قد وضع الدين معياراً شبه وحيد في النظر الى طبيعة الحضارة، او للتمييز بين حضارة وأخرى؛ وأدخل الى تاريخ تشكل الطائفة، ذاكرة ثقافية مشبعة بصور اضطهاد الاقليات الدينية أيام الدولة الاسلامية. والذي يقف على آراء بعضهم الآخر، يلقاه ما برح يسند الى الخارج دوراً مؤثراً في تنامي الانقسام الطائفي وتعميقه بنيوياً، او في تسعير الطائفية موسمياً بما يخدم أهدافه ومطامحه السياسية في لبنان...
3ــ أما في الرؤية البنيوية، فالطائفة هي علاقة من التمثيل السياسي تتحدد فيها الطبقات الكادحة كطوائف، بينما يتحدد ممثلوها السياسيون في تلك العلاقة كفئة من البرجوازية. وقد جاء هذا التعريف في ضوء تحليل مادي للبنية المجتمعية الراهنة في لبنان، اي لبنيته المجتمعية الرأسمالية. فكان ان ركز على الصراع الطبقي الذي يتولد عنها، وعلى ما يتخذه من مظاهر وأشكال. ثم وجد تالياً أن الطبقات الكادحة تظهر في مجرى هذا الصراع كطوائف بفعل غياب قوتها السياسية المستقلة (حزبها الطليعي)، او ضعف ممثليها السياسيين الحقيقيين، وهو ما جعل تمثيلها السياسي يرتبط بقوة مجتمعية او بفئة أخرى، وهي التي تظهر في المجرى الصراعي ذاته، كفئة من البرجوازية المسيطرة... لذلك كانت الطائفية في النظر البنيوي، هي الشكل التاريخي الذي تمارس فيه البرجوازية اللبنانية سيطرتها الطبقية على الدولة...
من اللافت هنا بحق، أن تأثير التحليل البنيوي الطبقي قد تقلّص منذ فترة في الكتابة الفكرية والسياسية في موضوع الطائفية؛ أو أن أنصاره احجموا عن متابعته او تطويره او إغنائه لأسباب قد تكون ذاتية او موضوعية. لكن، وبعيداً عن اي حكم مسبق، يبقى من الإنصاف القول، بأن هذا التحليل يمثل مقاربة نظرية جادة للظاهرة الطائفية في المجتمع اللبناني، وبخاصة لجهة تظهير مضامينها الطبقية، وهي مضامين لا شك في انها تحضر في الظاهرة سواء في انتظامها في البنية المجتمعية الراهنة، أو في البنية السابقة عليها تاريخياً...
على اي حال، إن الرؤى اعلاه قدمت صورة اجمالية عن الطائفة والطائفية في لبنان. وهي صورة لا تزال تشغل كما تبيّن آنفاً، حيزاً مؤثراً في ساحته الفكرية والثقافية. لكن وفي جانب آخر، ليس من ضير في أن يضاف اليها ما يغنيها او يبلورها اكثر، لا سيما أن تلك الاضافة تتأتى عن رؤية سوسيولوجية تحاول ان تدرس أبعاداً جديدة في الظاهرة، وتمثّل منطلقاً رئيساً للنظر في طبيعة العلاقة التاريخية بين الطوائف والدولة...
4ــ رؤية ســـــــــــــوسيولوجية: الطائفة في المقترب الوصفي، هي جــــــــــــماعة من البشر، تقوم على تراتبية مجتمعية محددة، وتنتمي الى مذهب ديني واحد ذي طقوس وتقاليد موروثة، وتكون فرص اللقاء والتبادل الداخليين بين افرادها، ذات افضلية او أكثر حظوظاً من فرص اللقاء والتبادل مع الخارج او الآخر المنتمي الى مذهب ديني مختلف.
* استاذ جامعي