خورشيد دلي*
اتسمت العلاقات العراقية ــ السورية طوال العقود الماضية ولا سيما في عهد صدام حسين بالتوتر والصراع وعوامل المجابهة على الرغم من الأيديولوجيا الحزبية الواحدة (البعث) في البلدين قبل انهيار حكم صدام حسين عام 2003، وفي أحيان قليلة شهدت هذه العلاقات تقارباً غلب عليه الطابع الاقتصادي وحديث عن أن كل طرف يشكل للآخر عمقاً استراتيجياً في معركة الصراع مع إسرائيل، إلا أنه في الإجمال يمكن القول ان الثقة ظلت مفقودة بين البلدين ولا سيما في مرحلة الرئيس الراحل حافظ الأسد وصدام حسين قبل انهيار حكمه.
بعد احتلال العراق، دخلت هذه العلاقة مرحلة جديدة كادت المواجهات الحدودية في كثير من محطات هذه المرحلة أن تتحول إلى مواجهة بين البلدين وسط مخاوف بل وقناعة سورية بأنها كانت هدفاً مباشراً للإدارة الأميركية بعد احتلال العراق فيما لو جرى المخطط الأميركي كما كان مرسوماً، وبما أن هذا المخطط لم يسر كما خططه المحافظون الجدد الذين يراجعون سياساتهم في العراق والمنطقة هذه الأيام جاءت زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم للعراق بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف سنة على احتلال العراق، ولتبدو العلاقات بين الجانبين بعد هذه الزيارة أمام مرحلة جديدة، يمكن القول ان عناوينها الأساسية تتلخّص في حل الخلافات والإشكاليات التي تعترض هذه العلاقة منذ الاحتلال الأميركي، والدخول في مرحلة تطبيع عبر إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين وترتيب الأولويات من خلال تفعيل العلاقات الاقتصادية والتعاون الأمني والحدودي وبعث الروح في العلاقات التجارية من حيث معظم تجارة العراق الخارجية تتم عبر الأراضي السورية.
مع هذا المناخ الإيجابي الجديد، لعل السؤال الذي يطرح نفسه في اتجاهين متكاملين، هو إلى أية درجة الحكومة العراقية قادرة على ربط خياراتها بدول المنطقة بعيداً من البعد الأميركي وحسابات الإدارة الأميركية وسياساتها؟ وفي الوقت نفسه إلى أية درجة يأتي توجّه دول المنطقة الجديد نحو العراق بعيداً من الحسابات السياسية مع الإدارة الأميركية سواء في ما يتعلق بالقضية العراقية أو غيرها من القضايا المتفجرة في المنطقة؟ من يقرأ اللحظة السياسية لهذا المناخ لا يمكنه ان يتجاهل ما تواجهه الإدارة الأميركية في العراق من عقبات أمنية قد تطيح مشروعها الشرق الأوسطي... وتلحق بها خسارة استراتيجية كبيرة بدأت ملامحها تظهر بعد فوز الديموقراطيين في انتخابات الكونغرس وارتفاع أعداد القتلى من الجيش الأميركي في العراق على وقع التقارير التي بدأت تتسرب عن مجموعة بيكر ــ هاملتون التي تدرس الشأن العراقي، وتتالي الدعوات لإشراك سوريا وإيران بالوضع العراقي. ومع ان دمشق ومعها عواصم المنطقة تشعر بالراحة والغبطة لوصول السياسة الأميركية إلى هذه النقطة الحرجة، أراد وزير الخارجية السوري توجيه رسالة واضحة في عدة اتجاهات خلال زيارته بغداد عندما قال لحظة وصوله: «لم آت إلى بغداد إرضاء لأي كان باستثناء الشعبين العراقي والسوري»، وذلك في رسالة غير مباشرة إلى الذين ربطوا الزيارة بالمسعى الأميركي الجديد وفسّروها في إطار صفقة أميركية ــ سورية. في الواقع، ينبغي النظر إلى ان نظرة الحكومة العراقية تجاه دول المنطقة اختلفت بدرجة كبيرة عن السابق، وثمة قناعة بدأت تتشكل لدى هذه الحكومة بأن المعضلة الأمنية في أسبابها وقواها وأبعادها هي في الداخل العراقي ومنه وليست من الخارج، وبأن العراق وبحكم عوامل التاريخ والجغرافيا لا يمكن في النهاية ان يكون بعيداً كثيراً من المنطقة وبنيانها العام، وعليه فإن الاتهامات العراقية والأميركية لسوريا بدعم المقاتلين وإرسالهم إلى العراق من دون أدلة ملموسة، وكذلك الحديث عن انتهاج سياسة وضع العقبات أمام العملية السياسية الجارية في العراق لم يعد لهما من معنى، وخاصة في ظل الاستعداد السوري الدائم لدعم هذه العملية واتخاذ خطوات عملية للحد من عمليات التسلل إلى العراق.
وفي الحديث عن السياسة السورية تجاه العراق لا بد من القول إنها، وفي مواجهة الاتهامات الكثيرة التي كيلت لها خلال السنوات الماضية في شأن دعم المقاتلين والجماعات المسلحة، حاولت جاهدة امتصاص هذه الاتهامات واستيعابها انطلاقاً من حرصها على عدم الانجرار إلى مواجهة مع العراق تحت الاحتلال، مواجهة منشودة إسرائيلياً وأميركياً، وهي في سبيل ذلك كثّفت من إجراءاتها الأمنية على الحدود عبر نشر قوات إضافية هناك وإقامة سواتر ترابية وحواجز أمنية.. هذا على الأرض، أما على المستوى السياسي فقد انتهجت سياسة تقوم على مجموعة من الثوابت تتلخص في دعم العملية السياسية وتأييد مشاريع المصالحة الوطنية ونبذ الإرهاب وضرورة الحفاظ على وحدة العراق بما يؤدي كل ذلك إلى تهيئة الظروف للمطالبة برحيل الاحتلال وقد طالب وزير الخارجية السوري في بغداد بوضع جدول زمني لسحب هذه القوات.
في ظل الوقائع السابقة، هل يمكن القول ان السياسة السورية كانت تسير في الطريق الصحيح؟ إذا كان الأمر كذلك فإنه يمكن القول ان العلاقات السورية ــ العراقية أصبحت أمام مرحلة جديدة، مرحلة مغرية بالفوائد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية للجانبين نظراً إلى أهمية كل طرف للآخر لأسباب جغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية لا يتسع المجال هنا لشرحها بالتفصيل، مرحلة تحمل معها عوامل النجاح إذا ما توافرت الإرادة السياسية الكاملة التي تتجاوز إقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة وتوقيع مجموعة من الاتفاقات الأمنية.
المناخ بين دمشق وبغداد بدأ يتغير، والأهم في هذا التغير هو انه يجري من دون صدام حسين.. وفي انتظار ما سيقوله الرئيس جلال الطالباني خلال زيارته المقررة لدمشق.. فإن نهر الفرات قد يبعث السياسة كما الماء بين سوريا والعراق!
*كاتب سوري