زياد سعيد
لا جريمة كاملة إلا في لبنان. ليس في القول أي استباق للتحقيقات التي يقال انها بدأت، أو تلك التي تنتظر، مع ما في ذلك من خروج عن السياق السياسي الحاكم، وهو السياق الذي يهدد ان يقود البلد الى السقوط في هاوية الخراب والفوضى.
موضوعياً، يمكن القول انه لا سبب «أمنياً» يبرر للجريمة اللبنانية ان تكون كاملة، ففي البلد حشد أجهزة أمنية واستخبارية، محلية وعربية ودولية، لا مثيل له في العالم، وبما يفوق إمكانات الحيز السياسي والجغرافي اللبناني المحدود وقدراته، وأغلب هذه الأجهزة «صديق»، ويريد للبنان الخير والسؤدد، على ما تقوله التصريحات الاميركية والفرنسية. فضلاً عن تفشّي الكاميرات الخاصة والشخصية التي ترصد العابرين والمارة، وأجهزة التنصّت التي تحصي الأنفاس والمنتصبة عند كل زاوية ومنعطف، وعلى رغم كل ما سلف تقع الجريمة في وضح النهار، وينجح الفاعلون بالفرار. أي نوع من المهارة تلك التي تتيح لبضعة أشخاص أن يقوموا بما قاموا به، وعلى مرأى من الناس، بل قل أي نوع من الشجاعة؟ لا جواب عند المعنيين، وسيبقى الأمر كذلك ما دام الاستئثار ممسكاً بالسلطة.
لا حاجة إلى القول ان مهارة التنفيذ وبراعة المنفّذين تبقى عنصراً ثانوياً في الجريمة التي استهدفت الوزير بيار الجميل، فالمهارة لا تكفي لجعل الجريمة تبدو كاملة، وما يجعلها كاملة هو القرار بالعجز الذي يستبطن قرار المضي في مشروع إلحاق البلد بالمشروع الاميركي الذي يستهدف المنطقة.
كان واجباً منع الجريمة من الحدوث، بمعنى آخر كان يجب تفاديها. هل كان ذلك ممكناً؟ الأرجح أن نعم، إلا ان الحاجة، حاجة اللحظة السياسية الخاصة بقوى السلطة والواقفين وراءها، أوجبت حدوثها، وخصوصاً بعد تعذّر السبل أمام استعادة المبادرة التي تهاوت يوم سقط العدوان الاسرائيلي بفعل الصمود العسكري لرجال المقاومة اللبنانية، ومن المستبعد ان يتأخر وقت انهيارها المحتوم.
لا تكون الجريمة كاملة إلا متى توافرت لها الظروف التي تجعل منها كذلك، فاستباق التحقيقات هو في جوهره واحد من عناصر الاكتمال وسبب له، أما التسرّع في توجيه الاتهام فهو العنصر الثاني المكمّل للعنصر الأول، وخصوصاً ان المنطق يقول إن كل كلام لا يستند الى أدلة يمكن اعتباره تضليلاً وتغطيةً على المجرم الحقيقي، وهو المعنى الأبرز في الخطاب السياسي الذي طبع الكلمات التي أُلقيت نهار أمس في ختام التظاهرة.
إننا والحال هذه أمام جريمة ناقصة، ولهذا السبب ربما كانت هذه الدعوة السريعة الى التعبئة التي ارتدت شكل التظاهرة. وهي تظاهرة أقل ما يقال فيها إنها لا تساعد على الوصول الى تحديد الجهة أو الجهات الواقفة وراء الجريمة.
كثيرة هي الدلالات على هوية المجرم، إلا ان الحاجة السابقة نفسها تملي استبعادها. التوقيت السياسي القاتل إحدى هذه الدلالات، وتجاهله أمر مقصود، وخصوصاً ان التوقيت يمكن ان يشكل خيطاً له ان يدل على المجرم، وكذلك هي الحال مع المستفيد، إذ لا يمكن أبداً فصل الجريمة عن السياق السياسي الممسك بالبلد منذ نحو سنتين.
بالأمس عاودت «الأكثرية» قول كلمتها. ومضمون هذه الكلمة لا يحتاج الى عناء القراءة، المعنى العميق للقول الأكثري المتجدد يوصد الأبواب أمام التسويات الممكنة، وبالمقابل يفتح البلد أمام المزيد والمزيد من المخاطر.
يمكن القول اننا نعيش أياماً فاصلة، أيام سوف يكون لها ما بعدها. الاحتقان بلغ الذروة، الخطوط الحمر لم تعد كذلك. ومن جديد يتأكد اننا أمام «أكثرية» لا تُضارع في تفويت الفرص. صحيح ان الفرص التي أمكن توفيرها سابقاً (حواراً وتشاوراً) لم تكن في حجم المشكلة، إلا انه كان ممكناً البناء عليها. اليوم ندخل مرحلة هي الأخطر في عمر الكيان.