جميل قاسم *
المواطنية بمعناها الدلالي تعني انتماء المواطن إلى وطنه. هل ثمة «دور» ما في هذا التعريف يوقعنا في النزعة التحصيلية (تحصيل الحاصل)؟ إن تعريف المواطن يتطلب تعريف الوطن أيضاً؟ وليس ثمة تعريف تحديدي ــ وكل تعريف تحديد ــ للوطن، فقد يكون الوطن هو الوطن ــ الإقليم، وقد يكون الوطن هو الوطن القومي حتى حين لا تتطابق الجنسية Nationlite مع القومية Wolkstam (بالألمانية)، أي حتى لو كانت الأمة غير متحققة في دولة ــ أمة، كما هو الحال في إيطاليا وألمانيا قبل الوحدة، وكما هو الحال في الأمة العربية، في الوقت الحاضر. وقد يكوم «الوطن العالمي» على الطريقة الرواقية القديمة أو الطريقة الأممية الحديثة. وقد يقوم الوطن على أساس الانتماء السياسي والحقوقي للدولة (الولايات المتحدة الأميركية)، وقد يقوم على رابطة سياسية ــ اقتصادية لجماعات أقوامية متعددة (سويسرا، بلجيكا).
هل يمكن أن يقوم الوطن والمواطنية على أساس الرابطة الدينية العنصرية (إسرائيل)؟ لكنها قد تقوم على أساس الرابطة الدينية الإيجابية ضد الطاغوت أو الاستعمار (إيران، باكستان)، أو على أساس طائفي (لبنان). ألا تقوم المواطنية ــ فقط ــ على أساس «المشيئة» ــ كما توقّع وعرّف أرنست رينان القومية في كتابه المشهور «ما هي الأمة؟»، متنبئاً بتحقق فكرته في «الاتحاد الأوروبي»؟
ما هي المواطنية إذاً؟
هل تقوم المواطنية على رابطة اللغة والثقافة المشتركة؟ هل تقوم على العامل الاقتصادي؟ هل تقوم على الرابطة الدينية، أو الإثنية، أو الطائفية؟
قامت المواطنية في اليونان القديمة على أساس الانتماء للمدينة أو الحاضرة؟ كما كانت المواطنية في العصور الوسطى تعني «مواطني المملكة»، ثم حُددت الأمة على أساس الانتماء إلى «الجنسية» (فالفرنسي هو حامل الجنسية الفرنسية) أو الانتماء لدولة ما (الولايات المتحدة الأميركية، كندا، أوستراليا).
علام تقوم المواطنية إذاً؟
تقوم المواطنية على عقد وطني، «لا شخصي» impersonnel، تتوافق عليه جماعة أو شعب أو أمة ما، يأخذ شكلاً إقليمياً، أو قومياً، أو قارياً (أُممياً). فيمكننا والحال هذه، الكلام على مواطن لبناني، ومواطن عربي، ومواطن أميركي، ومواطن أوروبي، بل ومواطن أممي (كوزموبوليتي). العقد اللاشخصي هو العقد الاجتماعي الذي يقوم على أساسه اجتماع الجماعة الإنسانية، وهو عقد توافقي conventionel، إرادي، عقلي يقوم كما عرفته فلسفة الأنوار على مبدأ «الحق الطبيعي» في مقابل مبدأ «الحق الإلهي» الذي تقوم عليه الملكية المطلقة، أو البابوية ــ القيصرية، أو القيصرية ــ البابوية.
ولذلك عارض الفيلسوف الإنكليزي جون لوك روبرت فيلمر صاحب كتاب «الحكم الأبوي» Patriarcha، (هو عبارة عن دفاع عن حق الملكية الإلهي) بمبدأ الحق الطبيعي ــ وهو عنده «طور من الحرية والمساواة بين جميع البشر، يخضعون فيه لسلطة العقل وسنة الطبيعة. ومن ثم ينبثق من الطور الطبيعي المجتمع، أو الاجتماع السياسي والمدني، الذي يتنازل فيه الأفراد عن حقوقهم الطبيعية للجماعة، وتقوم الدولة على الاتفاق والعقد الاجتماعي بين الأفراد. وتأخذ أشكالاً ملكية، أو ملكية دستورية، أو ديموقراطية، أو أوليغارشية (حكم المال السياسي) إلخ. (انظر جون لوك: «في الحكم المدني». ترجمة ماجد فخري. اللجنة الدولية لترجمة الروائع. بيروت 1959).
هل يقوم النظام اللبناني على مبدأ المواطنية؟ أم هو بالأحرى نظام طائفي بطركي؟ هل من قبيل الصدفة تأسيس دولة لبنان الكبير على يد الجنرال كليمنصو والبطرك حويك؟
إذا كانت البطركية عند فيلمر تعني النظام الملوكي الأبدي، فعلام يقوم النظام البطركي الطائفي في لبنان؟ إنه في جوهره منطق سلطة، متعال، ينبني على وصل السياسة بالطائفة، والطائفة بالدولة، وعلى خطاب سلطة يقوم ضمناً على مبدأ «الحق الديني» أو «الحق الطائفي» في اللغة والسياسة والقرار والسلوك، والإرادة، وهو خطاب سلطوي طائفي يضع نفسه فوق التاريخ والتطور.
لا يعني ما تقدم مناوأة الدول التي تقوم على مبدأ الحق الديني، كمرحلة انتقالية، حيث يلعب العامل الدنيوي دوراً بديلاً للهوية الوطنية والقومية والإنسانية «الضمنية» (إيران)، ونحن نعرف مثلاً أن مكسيم رودنسون عرف الرابطة القومية بأنها رابطة «ضمنية» أو تاريخية، أو سياسية. لقد شهدت أحداث الثمانينيات من القرن العشرين استخداماً «براغماتياً» للسلطة البطركية في الصراع الدولي (دور يوحنا بولس السادس في بولندا وانهيار الاتحاد السوفياتي)، ولكن، من ناحية أخرى، لا يمكننا نسيان دور البابا الإيجابي في «الإرشاد الرسولي» ودعوته المسيحيين اللبنانيين إلى الانخراط في مشرقهم والتشبث بمواطنيتهم وهويتهم العربية.
هل يشكل النظام الأبوي صماماً لهوية لبنان الطائفية ــ السياسية؟ ومن حيث هو كذلك ألا يخلق ردائف له في الطوائف الأخرى؟ فالمارونية السياسية لا بد أن تخلق ــ شئناً أو أبينا ــ مرادفات سنية ــ سياسية، وشيعية ــ سياسية، ودرزية ــ سياسية، وحتى في المعسكر الواحد ثمة خيام كثيرة... السلطة في لبنان ــ وشتان ما بين منطق السلطة ومنطق الدولة ــ تقوم على عقد طوائفي، يحول «اللعبة الديموقراطية في لبنان إلى ديموقراطية استوائية isotymique «تستوي» فيها السلطة والمعارضة، والفرد والجماعة، واليسار واليمين، والرأسمالية والقوى العاملة على حد سواء!».
ومع أن السلطة تقوم على التناوب والتداول، فلا يمكننا اعتبار الحرية في لبنان دالة على الديموقراطية بمعنى الكلمة (حكم ــ الشعب) بل على نظام طوائفي، تعاقبي، تقوم لعبة التداول فيه على التعاقب السياسي للطبقة السياسية ذاتها على مر العهود.
والإيديولوجيات الطائفية في لبنان راسخة، في التربية والاجتماع ــ فضلاً عن السياسة والاقتصاد ــ كما لو كانت مسألة تكوينية «قدرية» جماعوية، فيما الفرد ــ الإنسان (أُس وأساس المواطنية) لا حضور له ولا وجود له إلا في إطار الجماعة الطائفية.
وهناك سيكولوجيا طائفية تحكم الإنسان فينا من المهد إلى اللحد، في ظل غياب الوعي بالمواطنية، والفردية ــ الجماعوية حتى، في ظل طغيان وسيادة سلطان الجماعة على الفرد والإنسان.
تقترن المواطنية بالليبرالية، كفلسفة مفصلية تقوم على تحديث البنى والمجتمعات وتحرير الذات الإنسانية، ولكن الليبرالية بمنأى عن قيمها الكبرى (العقل والعقلانية، الفرد والفردانية، العلم والعلمانية، حرية المبادرة، الديموقراطية) ليست واحدة الدلالة والمعنى، فهي ترتبط كأي فكرة أخرى بإرادة اقتدار تمنحها القوة والقيمة، وقد ارتبط تاريخياً بمنطق السوق الكاينزي الذي يستثمر الإنسان فيه الإنسان، كما ترتبط بمنطق السلعة ومجتمع الاستهلاك، وترتبط بالإمبريالية والاستعمار، من جهة، كما ترتبط بشرعة حقوق الإنسان والمواطن، والاشتراكية، وحركات التحرر العالمي وبالتالي ليست الليبرالية فكرة جوهرية كالحرية، بل هي من الأفكار الثواني التي تتحدد بقوة الاقتدار التي تحددها. من هنا قد ترتبط الليبرالية بالطائفية ــ السياسية في نظام أوليغارشي (حكم المال السياسي كما تقوم في ظل نظام عنصري (الأبارتيد في جنوب أفريقيا، وإسرائيل في المنطقة العربية). وبالتالي لا تدل الليبرالية في مجتمع كالمجتمع اللبناني على الحرية، ولا على الديموقراطية، بمعناها التكافلي والتعددي والتكافئي.
هل يمكننا في لبنان بناء نظام جديد «لا طائفي»؟ الأمر يحتاج إلى تحديث بنياني لا يعود معه، الكيان اللبناني على ما هو عليه، ولكنه يكون، بالقول والفعل، نظاماً ليبرالياً، ديموقراطياً، حديثاً نموذجاً للحداثة المنشودة والمفقودة في لبنان والمنطقة العربية.
وهذا يقتضي الإصلاح السياسي ــ وهو أُس وأساس الإصلاح الديني والدنيوي، الاقتصادي والاجتماعي والتربوي بقيادة حركة شعبية ديموقراطية (حشد)، ذات برنامج وتوجه ديموقراطي ما بين ــ طوائفي، يقوم على الدعوة إلى تغيير جذري وحقوقي على الصعيد الإداري، أولاً، بإلغاء الطائفية الإدارية (طائفية الوظيفة) وتغيير نظام الأحوال الشخصية كأساس للإصلاح السياسي والديني والتربوي، وإقامة قانون انتخاب على هذا الأساس. لقد قام البعث النهضوي Renaissance في الغرب على الميراث الإنساني والدهري في تأسيس نزعة إنسانية جديدة أسهمت في خلق آداب قيمية جديدة لإنسان جديد، تأسست على أخلاقية المعاملة الدنيوية التي حولت المعاملة الدينية بموجبها دين معاملة Ethique يقوم على العقل والعلم والعقد والوعد والدقة، والعمل كقيمة محددة لكل قيمة. وعلى أساس هذه الآداب القيمية لا يبنى مجتمع المواطنية في لبنان فقط، بل في الوطن العربي برمته.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية