ديمة ونوس*
في دمشق، كما في معظم العواصم العربية، هناك شريحة عظمى تولد في الشارع من دون أن نلمحها أو نكترث لوجودها. شريحة أنهكها الفقر والخوف. لا تهمها الأحداث التي تربك الحياة في الوطن العربي. لا تعنيها الضغوط التي تتعرض لها دمشق أو إيران. غير مسؤولة عن الوضع في لبنان. غير مكترثة بالاحتلال الأميركي لأفغانستان أو للعراق. شريحة أنهكها الفقر والخوف.
في دمشق، الكل مشغول بلملمة قصاصات من التصريحات الأميركية والأوروبية. بتحليل ما يجري بطريقة لا تخلو من المبالغة. بالتربع أمام التلفاز لساعات طويلة. ما عدا تلك الشريحة التي لم تعد معنية بأي تفصيل يتجاوز بؤسها المخيف، الكبت الاجتماعي والسياسي المحيط بها، الفروق الطبقية التي صارت جزءاً من نسيج الحياة في سوريا، القهر الشرس والخانق.
في دمشق، كما في معظم العواصم العربية، هذه الشريحة العظمى غير المعنية بأي تفاصيل مهمة، هي التي تولد في الشارع من دون أن نلمحها. هي التي تحرك السير في الشارع وتنظمه من دون أن نكترث لوجودها. أن نتأمل قهرها وبؤسها. هذه الشريحة المترامية في شوارع دمشق المعدومة، في القرى التي تعتلي الجبال بالقرب من البحر أو بعيداً عنه، تغضبها محاكمة صدام حسين. هذه الشريحة التي لا تمتلك تلفازاً، ولا تقرأ الصحف، ولا تُشغل بلملمة قصاصات من التحليلات التي تصدّرها البرامج السياسية، تحزن على صدام وتتسامح مع جرائمه. ترفض تسميته بالديكتاتور وتضعه مكان أي زعيم عربي يتربع على عرشه. هي تعرف جيداً أنه إرهابي وينتمي للأنظمة الشمولية القمعية، لكنها ترفض أن يحكم عليه بالإعدام وتهان كرامته، كرامة القائد العربي.
هذه الشريحة المهمشة التي لا يثبت وجودها سوى الختم الرسمي المطبوع على دفاترها العائلية، تعشق السيد حسن نصر الله وتعتبره زعيماً عربياً بامتياز. تستمع إلى خطاباته في المقاهي أو يتناءى إلى مسامعها صدى نبرة صوته الواثق من وراء جدران البيوت المتلاصقة. يشدها خطابه الحماسي والوطني. يتقد الدم في شرايينها من إيقاع جمله القصيرة والمُحكمة. تتسارع نبضات فؤادها من نظرات السيد، من لمعان عينيه المفعمتين بالحكمة والحنكة. السيد حسن نصر الله استعاد لهذه الشريحة العظمى الراكدة على هامش الحياة، هامش الذاكرة، متعة الانتصار أو التفوق. أعاد لها كرامتها التي ولدت وماتت في الشارع من دون أن يلمحها أحد أو يكترث لوجودها أصلاً.
في دمشق، هذه الشريحة التي أرغمت على العيش في محيط لم يساهموا يوماً إلا في تكريس تخلفه وانغلاقه، لا تكتمل صورة الكرامة العربية في أذهانها إلا بانضمام الرئيس الإيراني إلى الصورة من اليمين أو من اليسار أو حتى في الوسط لا يهم. محمود أحمدي نجاد هو ربما القائد الوحيد الذي تجرأ على تهديد العدو بالفناء. هو الوحيد الذي يرد على تهديدات إسرائيل في اليوم ذاته بتطوير سلاحه أو بتجريب صاروخ قدرته تفوق المنطق. هذه الشريحة يمتعها الحديث عنه، عن طموحاته النووية، عن قوته وجرأته الخارقتين، عن عينيه الطفوليتين أو حتى عن سمعته النظيفة، فهو لا يمتلك حتى الآن سوى سيارة صغيرة متواضعة.
هذه الشريحة المغيبة تماماً عن كل ما يجري، يفرحها خبر التفجيرات التي تستهدف السفارات الأجنبية في العواصم العربية، كما أفرحتها تفجيرات الحادي عشر من أيلول رغم تداعياتها. ترضي إحساسها بالنقص، تعيد لها كبرياءها المنتهكة. تشعر بأن هذا الإحساس «القومي والعروبي» يميزها عن الشرائح الأخرى.
فوز حماس كان فوزها، فوز المقاومة الباسلة، فوز العقلية الدينية على عقلية الفكر وثقافة الحوار المتمدن. حتى في فلسطين أضاعت النخبة السياسية مشروعها والمخزون الثقافي الذي مضى قرن على مراكمته. فوز حماس كان فوز الغالبية العظمى من الشارع الذي اختار ثقافة الدين والفقه الإسلامي والجهاد.
تصريحات قادة حماس المتوعدة تملأ الفراغ في ذاكرة تلك الشريحة. الثأر لدماء الفلسطينيين هو ثأرها لدمائها الجامدة في العروق خوفاً من المجهول. تبنّي كتائب القسام لعملية استشهادية ينسكب بريقاً لزجاً من الحرارة والغبطة في روحها التي لم تشارك يوماً في القرار السياسي أو في تغيير ما.
هذه الشريحة التي تعيش في الشارع من دون أن تمتلك ذرة من ترابه أو رصيفه، صفعتها التصريحات الأخيرة لوزير الثقافة المصري فاروق حسني، عندما وصف شعر النساء بالورود. كفـّرته وطالبت بإقالته وربما اشتهت موته. هذه الشريحة التي لا تملك ثمن صحيفة أو أي وسيلة إعلامية، حاصروا مخيلتها وقدرتها على الإدراك بقناة تلفزيونية واحدة تشبه ربما قناة السويس أو قناة بنما أكثر بكثير مما تشبه قناة تلفزيونية. حددوا خياراتها بثلاث صحف محلية يهمها الحديث عن جرائم الشرف أو عن المحاضرات الممجوجة التي لا تمل البحث في الأدب الجاهلي أكثر بكثير من الوقائع المخيفة التي ترهب العالم بأسره.
هذه الشريحة التي تعاني أزمة وجود يأسرها وجود شخص كأسامة بن لادن في حياتها. بن لادن الأسطورة التي استعاضوا بها عن أساطير ألف ليلة وليلة حتى في نسختها المعدلة. بن لادن الذي يمتلك الأسلحة الوحيدة المتاحة لهذه الشريحة. سلاح الإيمان بالله واليوم الآخر. سلاح المقاومة الدينية والجهاد في سبيل الله. سلاح الخطاب الديني الحماسي. لم تعد الثورات الفكرية والثقافية قادرة على مواجهة الفحش السياسي والاجتماعي. لم تعد الشريحة هذه تؤمن بأحلام المقاومة الفكرية الثقافية التي أفشلت مشروعها تراكمات من القمع والدماء. التي قتلت لغة العسكر حماستها وحريتها.
قد تكون الأنظمة التي جاء بها القدر هي التي سممت أرواح الغالبية العظمى من الشارع، لكن الخطاب الإيديولوجي التي تتبناه النخبة رافضة التخلي عنه، قد يكون عاملاً محزناً، لكنه مهم في ابتعاد القاعدة الشعبية المغيبة والمهمشة والمحرومة من وسائل الانفتاح والإدراك عن الخطابات الفكرية والثقافية. قد يكون عاملاً أساسياً في انضمام هذه الشريحة العظمى للفكر الديني الشعبي الذي يناسب قدراتها وبؤسها والفراغ السياسي والثقافي الذي تعيشه.
* كاتبة سورية