بولس الخوري *
يمكن اعتبار الاتّجاه العصريّ النقيض للاتّجاه التقليديّ. فهو لا يرجع إلى التراث إذا كان التراث مرادفاً للماضي أو للذهنيّة السائدة في حقبة من الماضي. وهو، بنوع خاصّ، يرفض سلطان الدين والبنية الذهنيّة الدينيّة، ويرفض التوفيق الساذج بين الدين والعقل. فهو، بالعكس، يقول بتناقض الفكر الدينيّ والفكر العقليّ والعلميّ، ويختار العقل والعلم، لأنّه يختار العالم الحديث.
الموقف الإنسانيّ همّه الإنسان ومشكلاته الراهنة، مشكلات الحياة اليوميّة، تلك الحياة العابرة التي وحدها تكوّن الواقع الحسّيّ. فمن أصحاب هذا المذهب من قال إنّ الإنماء إنّما هو إنماء ذاتيّ، وإنّه يكون بتكوين الإنسان وتحرير طاقاته الإبداعيّة، ويكون بابتداع حضارة الإنسان. ومنهم من قال إنّ العلم جعل الإنسان كائناً ذا قدرة لا حدّ لها، فوجب إذّاك أن يعي الإنسان مسؤوليّته الأخلاقيّة، فيستعمل قدرته لخير الإنسان وتقدّمه. ويكون ذلك بأن يسوس الإنسان نفسه ويطوّر المؤسّسات الاجتماعيّة وفقًا لمقتضى القيَم الإنسانيّة. ومنهم من ثار على جميع أشكال الاستبداد. ومنهم من سعى إلى تحرير المرأة العربيّة وتحرير طاقاتها الذاتيّة.
أمّا العقلانيّة، فمن شأنها أن تؤثر العَلمانيّة على التديّن. فالذهنيّة الدينيّة تُعتبر من الماضي، وبالتالي قد تخطّاها الزمن. والواقعيّة تفرض القبول بالعالم الحديث، وهو وحده العالم الواقعيّ، والتخلّي عن الحنين إلى الأوهام وعن الحلم بعالم مضى على غير رجعة. والحضارة الحديثة، أي النمط الجديد للحياة الإنسانيّة ولتنظيم الحياة الجماعيّة، هي وليدة الذهنيّة العلميّة. والعلم لا تقتصر سلطته على عالم الطبيعة، بل هي تشمل العالم الإنسانيّ والاجتماعيّ. ولذا فالسلوك الفرديّ والتنظيم السياسيّ والاقتصاديّ يكتسبان طابع وضعيّة القيَم والمعايير، وطابع الليبراليّة الاقتصاديّة، وطابع العَلمانيّة الاجتماعيّة السياسيّة. فمن أهل هذا المذهب العقلانيّ من أطلق الدعوة إلى الأخذ بالعلمانيّة وإلى العودة إلى الوجه العقلانيّ للتراث العربيّ. ومنهم من ميّز في التراث العربيّ بين المعقول واللامعقول، أي بين نزعة إلى العقلانيّة تجلّت في السياسة والأدب والفلسفة، ونزعة إلى المشاعر تجلّت في التصوّف وفي السحر والتنجيم. ومنهم من أطلق الدعوة إلى الانتقال من الذهنيّة الأسطوريّة الماورائيّة إلى الذهنيّة العلميّة الوضعيّة. ومنهم من أطلق الدعوة إلى فكر يجمع بين الواقعيّة والنقديّة والوجوديّة. ومنهم من أطلق الدعوة إلى تحديث العقل العربيّ باعتماد المنهج الاختباريّ. ومنهم من أراد الجمع بين العقل والضمير لتكوين الحضارة.
أمّا الاشتراكيّة العلميّة، في شكلها الماركسيّ، فإنّها تدفع بالخيار العلميّ والعقلانيّ إلى أقصى نتائجه، أي الإلحاد والمادّيّة التاريخيّة. الإلحاد هو النتيجة المنطقيّة لرفض الدين والذهنيّة الدينيّة ولرفض تسلّط الدين على مجمل مرافق الحياة الفرديّة والجماعيّة. والإلحاد، كي لا يقتصر على سلبيّة إنكار الدين، يتّخذ إيجابياً شكل المادّيّة التاريخيّة، وهي مذهب في تفسير بنية المجتمعات الإنسانيّة وتاريخها. فاجتمع بذلك في المادّيّة التاريخيّة المذهب الإنسانيّ والعقلانيّة. ومفاد الاشتراكيّة أنّ الواقع هو الحياة الاجتماعيّة كما تحدّدها أو تحكمها العوامل التقنيّة والاقتصاديّة التي تكوّن أساسَها المادّيّ، وكما تحكمها القوانين الوضعيّة العلميّة، وهي قانون الصراع الطبقيّ وقانون التغيّر الاجتماعيّ التاريخيّ. فمن أصحاب هذا المذهب من اعتمد المنهج الاشتراكيّ الماركسيّ لتحليل العمل الثوريّ. ومنهم من انتقد الأنظمة الرجعيّة المتمسّكة بالدين والمرتبطة بالاستعمار. ومنهم من قال بأنّ الماركسيّة اللينينيّة قد تُنتج الفكر العربيّ الجديد الذي هو، بفعل طابعه العلميّ، نظريّة حركة التحرير القوميّ، ومنهم من ارتأى التخلّص من الإيديولوجيات العربيّة ومن التعلّق بالمطلقات وبالماضي، واعتماد فكرة النسبيّة والتاريخيّة. ومنهم من ارتأى التخلّص من الذهنيّة الدينيّة أو الإيديولوجيا الغيبيّة، واعتماد الفكر العلميّ التحليليّ. ومنهم من نقض المواقف الخرافيّة في الذهنيّة العربيّة. ومنهم من قابل بين اعتبار الإنسان العربيّ كائناً ماورائياً، واعتباره كائناً تاريخياً. ومنهم من تناول بالبحث التراث الفكريّ العربيّ الإسلاميّ معتمداً المنهج العلميّ، منهج المادّيّة التاريخيّة.
هذه المذاهب الثلاثة تلتقي في اعتمادها القيَم الحديثة، وهي الإنسان والعقل. ومن أصحابها من رأى تعارض الدين والعقل، فأخذ بالعقل وترك الدين. ومنهم من اعتمد العقل من دون نقض الدين أو من دون الاكتراث للدين. فمنهم من كان من أهل التحديث الجذريّ، وهم أصحاب الاشتراكيّة العلميّة. ومنهم من كان أقرب إلى الموقف الإصلاحيّ في محاولته التوفيق بين قيَم التراث ووسائل الحداثة.
* باحث وكاتب لبناني