مشير باسيل عون *
يعاني اللبنانيّون المسيحيّون ضروباً شتّى من التوتّر الناشب في صميم العلاقة الناشطة بين السلطة الدينيّة المسيحيّة والسلطة السياسيّة المسيحيّة. وترقى أسبابُ هذا التوتّر إلى البنية الثقافيّة التحتيّة للوجود المسيحيّ في الشرق العربيّ السابق للإسلام والمصاحب لنشأة الإسلام والمعايش لنموّ الإسلام. وما الحديث عن التوتّر سوى التعبير الواقعيّ عن خضوع اللبنانيّين المسيحيّين لاقتدار السلطتين معاً. ولا ريب في أنّ تعاقب الأزمات المصيريّة في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر خدّر في الحسّ اللبناني المسيحيّ كلّ قدرة على التوثّب البنّاء والابتدار الخلّاق.
ولمثل هذا الخضوع أسبابٌ ثقافيّة واضحةُ الدلالة. فاللبنانيّون المسيحيّون يحملون في مطاوي كيانهم الجماعيّ أثر الذهنيّة الساميّة الشرقيّة التي يهيمن عليها هوى التديّن الطبيعيّ العفويّ التلقائيّ الذي يفيض منها ويستغرق جميع ميادين الحياة الاجتماعيّة. واللبنانيّون المسيحيّون تأثّروا تأثّراً بليغاً بالتصوّرات الإسلاميّة الجامعة لميادين الحياة الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. فالدين والدنيا ملتحمان أشدّ الالتحام في الغالب من التأويلات المتواترة لمضامين الدعوة القرآنيّة، وملتحمان أشدّ الالتحام في الغالب من كيفيّات الممارسة السياسيّة التاريخيّة الإسلاميّة. واللبنانيّون المسيحيّون ما انفكّوا يكابدون معاثر النضال في سبيل الحفاظ على وجودهم التاريخيّ السياسيّ الحرّ في الشرق العربيّ حتّى لقد انقلب صراعُ البقاء الهاجسَ الوجوديّ الأوحد المهيمن على بنية التفكّر اللاهوتيّ العربيّ المسيحيّ.
ولهذه الأسباب الثلاثة مجتمعةً يرضى معظم اللبنانيّين المسيحيّين بالارتكاز الثابت على هاتين السلطتين ويجتهدون اجتهاداً جبّاراً في استنباط أفضل السبل التي تضمن للسلطتين صدقَ الوفاق واستقامةَ الرؤية وجدوى الفعل التاريخيّ. بيد أنّ أمثولات الزمن المنصرم وعِبَر الواقع التاريخيّ الراهن تُظهران خلافَ ما يصبو إليه اللبنانيّون المسيحيّون. ذلك أنّ السلطتين المسيحيّتين الدينيّة والسياسيّة تتجاوران على غير وئام، وتتلازمان على غير اقتناع، وتتحاوران على غير وفاق. ومع أنّ شيئاً من التواطؤ الخفيّ بينهما يسعفهما على صون سلطانهما واجتناب المساءلة الذاتيّة الشافية، فإنّهما يتبادلان تبادلَ الهمس الخفِر الكثير من المعاتبة الناقدة والمؤاخذة الفاضحة.
ومن مقولات المعاتبة الدينيّة أنّ أهل السياسة المسيحيّين في لبنان غالباً ما يفتقرون إلى الحسّ الإنجيليّ في عيش التزامهم السياسيّ الوطنيّ، فيؤثرون المنفعة الذاتيّة الفرديّة والحزبيّة على خير الوطن وديمومة النموذج اللبنانيّ الهشّ. ومن هذه المقولات أيضاً أنّ السياسيّين المسيحيّين يعوزهم حسٌّ لاهوتيٌّ رفيعُ المقام يؤهّلهم ليدركوا معاني التمييز بين ضرورات الشهادة الصادقة لوداعة المسيح الإنجيليّة ومقتضيات الجهاد السياسيّ، وهو الجهاد الذي يكدح بهم في سبيل الإبقاء على الوجود المسيحيّ الحرّ في لبنان وفي سبيل صون شرعة حقوق الإنسان في سياق الاختبار اللبنانيّ الطائفيّ العسير.
وأمّا مقولات المعاتبة السياسيّة، فإنّها تصيب بانتقادها اللاذع مسألة الانخراط الكثيف للجسم الإكليريكيّ المسيحيّ في منعرجات المسالك السياسيّة اللبنانيّة. وتصيب أيضاً افتقار أصحاب السلطة الدينيّة المسيحيّة إلى الكثير من الدربة السياسيّة بما تستتليه من مهارة الاحتراف الجيوبوليتيكيّ والحنكة الاستراتيجيّة. ولا يتورّع أهلُ السياسة المسيحيّون في لبنان عن انتقاد أصحاب السلطة الدينيّة حين يبتعد هؤلاء عن المنهج السياسيّ الذي يواطئ مصالح السياسيّين المسيحيّين المنتقدين. وأمّا حين يأتي الخطاب الدينيّ المسيحيّ مؤيّداً لهذا المنهج السياسيّ، فإنّ الانتقاد السياسيّ للسلطة الدينيّة المسيحيّة يتّخذ صورة التبرير الطائفيّ الذي يُجيز لأصحاب السلطة الدينيّة المسيحيّة بعضاً من الانخراط السياسيّ في المجتمع اللبنانيّ. فإذا بمثل هذا التبرير الطائفيّ يستند إلى طبيعة التركيبة المجتمعيّة اللبنانيّة التقليديّة.
وفي الحالتين كلتيهما يشعر المفكّر المسيحيّ في لبنان بأنّ سلطته الفكريّة يصادرها تواطؤ السلطتين الدينيّة والمسيحيّة. وفي هذا الشعور كثيرٌ من المرارة والأسى والإحباط. ذلك أنّ المفكّر المسيحيّ في لبنان لا يمكنه إلاّ أن يخضع لمقتضيات النقد والإصلاح التي تنطوي عليها طبيعةُ الفعل الفكريّ البحت. وهو في المبدأ لا يسوّغ لنفسه أيّ ضرب من ضروب المساومة الدينيّة أو السياسيّة. ومن ثمّ، فهو يروم الإصلاح في المجتمع اللبنانيّ. غير أنّ مقصده المستقيم تصدّه التواءاتُ الطائفيّة اللبنانيّة، وتثبّطه ممارساتُ اللبنانيّين المسيحيّين الذين يتنازعهم ضربان من الأمانة الموجعة.
فاللبنانيّون المسيحيّون يودّون أن يواظبوا على أمانة الاستهداء بإرشادات السلطة الدينيّة المسيحيّة لأنّ إيمانهم المسيحيّ يملي عليهم مثل هذا المسلك المنطقيّ الشرعيّ المبرَّر. ومع أنّ الإيمان المسيحيّ لا يستتلي الخضوع الأعمى للسلطة الدينيّة، والمسيحيّة في جوهر إيمانها لا تعترف إلاّ بسلطة الروح الإلهيّ المنغرس في وجدان المؤمن ووجدان الجماعة المؤمنة، يضطرّ الواقع اللبنانيّ الطائفيّ معظم اللبنانيّين المسيحيّين إلى إسكات مطالبهم الإيمانيّة وتعزيز العصبيّة الطائفيّة المسيحيّة في مقارعة العصبيّات الطائفيّة الإسلاميّة.
واللبنانيّون المسيحيّون يرومون أن يظلّوا على أمانة المبايعة لتوجيهات السلطة السياسيّة المسيحيّة لأنّ وجودهم السياسيّ الحرّ في الشرق العربيّ لا تضمنه لهم مقولةُ الدولة الحاضنة الحامية العادلة. ومع أنّ مسلكهم السياسيّ الطائفيّ لا يعزّز على الإطلاق انبعاث الدولة السياسيّة المحايدة القادرة الضامنة للانتماء الوطنيّ، لا ينفكّون يصبون إلى هذا المثال في روحٍ من التنازع المرهق بين الطائفيّة الضامنة لوجودهم السياسيّ الخاضع لقرائن العالم العربيّ المتخلّف سياسيّاً، والعَلمانيّة الضامنة للوجود العربيّ المتقدّم سياسيّاً. ولا يخفى على أحد أنّ اللبنانيّين المسيحيّين، إذا أيّدوا العَلمانيّة في لبنان وأوطان الشرق العربيّ، أسهموا إسهاماً بيّناً في تطوير المجتمعات العربيّة واضعين أنفسهم في موضع الخطر الوجوديّ الأقصى، وأمّا إذا اضطُرّوا إلى المثابرة على النهج الطائفيّ، فإنّهم ينقذون أنفسهم من مخاطر الذوبان والتلاشي، ولكنّهم يشتركون في تخلّف العالم العربيّ السياسيّ والاجتماعيّ، ذلك أنّ الطائفيّة والعصبيّة والقبليّة آفاتٌ تنهك الوطن والدولة والمجتمع وتُغلق أبواب الانفتاح والتقدّم والرقيّ.
وما دام اللبنانيّون المسيحيّون يختبرون هذا اللون من العذاب الوجوديّ، فإنّهم يحارون في الأخذ بالمنهج الأصوب. وقد يكون الأصوب في القرار الحضاريّ (العلمانيّة المنفتحة المعتدلة) هو الأخطر في الدائرة السياسيّة الضيّقة (الحفاظ على الوجود الجماعيّ الجسديّ البحت)، فيما قد يظهر الأنسب في الدائرة السياسيّة (الطائفيّة الصائنة للوجود الجماعيّ الجسديّ البحت) هو الأشد فتكاً في الحقل الحضاريّ (القضاء على احتمالات الرقيّ الإنسانيّ الذي تضمنه مقولاتُ المساواة الكاملة والحرّيّة الفرديّة المسؤولة).
فإذا كان الأمر على هذه الحال، عاد لا ينفع التظلّمُ إلى الحكمة العقليّة الكونيّة من مسلك اللبنانيّين المسيحيّين الذين يتعثّرون ويتشكّكون ويتأفّفون حين ينتقد أصحابُ السلطة السياسيّة المسيحيّة أهلَ الإكليرُس الدينيّ المسيحيّ أو حين ينتقد هؤلاء أولئك. وفي الحالتين ينتفض اللبنانيّون المسيحيّون ويرتبكون حتى الإحباط. فثمّة انتفاضتان في المسلك المسيحيّ. تنبعث الانتفاضة الأولى حين ينتقد أهلُ السياسة أهلَ الدين في المسيحيّة، فيما تتّقد الانتفاضة الثانية حين ينتقد أهلُ الدين أهلَ السياسة في المسيحيّة.
ومن المعلوم أنّ سبب الانـــــتـــــــــفاضة الأولى حرصُ اللبنانيّين المسيحيّين على صـــــــــون جوهر العقيدة المسيحيّة وجوهر الدعوة الإنجيليّة وجوهر الـــــــــتمايز الحضاريّ في العالم العربيّ الإسلاميّ. ويقيــــــــــــنهم في هذا كـــــــلّه أنّ الإيمان المسيحيّ هو عنوان فرادتهم الــــــــــثقافيّة. أمّا سبب الانـــــــــتفــــــاضة الثانية، فهو سهرُ اللبنانيّين المسيحيّين على تعزيز المنعة السياسيّة لفرادتهم الثقافيّة. وهاجســـــــــــهم في هذا كلّه أنّ سموّ الكشف الإلهيّ قد تخــــــــنقه مواطآتُ الـــــــــزمان ما لم يُســـــــعفه اقــــــــتدار السلطان. والحقّ أنّهم في هذا كلـــــــــّه يحيون في وضــــــــــعيّة الانفعال الوجوديّ، وقد فقدوا القدرة على الإتيان بالفعل الحضاريّ.
وليس المقام هنا مقام التندّم والتشكّي والتعثّر. فاللبنانيّون المسيحيّون، إنْ هم شاؤوا فأسعفهم الدهرُ وأصحابُ النيات الصالحة في المجتمعات العربيّة، قادرون أن يبتكروا سبيلاً جديداً من الشهادة الروحيّة والإنتاج الحضاريّ والمسلك التاريخيّ يؤهّلهم للانخراط الرضيّ المثمر في تضاعيف الوجود العربيّ الراهن. ومن مقتضيات هذا السبيل أن ينبذ اللبنانيّون المسيحيّون عن أكتافهم الثقْل الطائفيّ الفادح، وأن يُقبلوا إلى مبادرة حضاريّة ساميةِ المرتقى بها يستثيرون في صميم المجتمع اللبنانيّ تفكّراً رصيناً وتقليباً للآراء في علمانيّة لبنانيّة تصون الإنسان اللبنانيّ وتحافظ على تراثاته الروحيّة ومكانزه الإنسانيّة.
بيد أنّ اللبنانيّين من هذا الأمر، إذا حُرِّك في الإعلام، على تباين مقلق: فرقةٌ ترى ما تذهب إليه هذه الدعوة الفكريّة الحرّة، وفرقةٌ لا ترى منفعةً واقعيّة لمثل هذه الاستثارة الفكريّة المنشودة، وفرقةٌ لا ترى هذا ولا ذاك وتعتصم بالعزلة الثقافيّة والتلاصق الاجتماعيّ والانكفاء السياسيّ. فلا عجب، من ثمّ، أن تقتضي حكمةُ الحكماء في لبنان الصبرَ حتى تهدأ الأرضُ اللبنانيّة.
* أستاذ الفلسفة والحوار
في جامعة الروح القدس (الكسليك)