توفيق شومان *
أغلب الظن، أن قراءة الاحتقان اللبناني، تحتاج الى إمعان في ما يتجاوز الأدبيات السياسية الظاهرة، فالأخيرة، وفق التقليد السياسي المعروف، تخضع لقاعدة «حافة الهاوية»، الأمر الذي يعني قدرة الإمساك بمفاتيح الانسحاب أو الاقتحام من جانب القادة السياسيين، وبالتالي خضوع القاعدة نفسها (حافة الهاوية) لمعادلتي التفاوض أو الوقوع في الهاوية.
وإذا كانت سياسة «حافة الهاوية»، غالباً ما تختم نهايتها بالعودة الى مائدة المفاوضات وبصرف النظر عن ممارستها في ظروف سيئة التوقيت، مثلما جرى مع الرئيس جمال عبد الناصر قبيل حرب عام 1967، ولاحقاً مع الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، فإن واقع الاحتقان اللبناني، يبدو متجاوزاً عناصر هذه القاعدة، وتحديداً بما يرتبط بقدرة الإمساك بالمفاتيح، ذلك أن الشارع (الشوارع) اللبناني، بات سافر الوضوح انجراره غير السياسي، وهذا ما يتناقض مع خطاب (خطب) القادة السياسيين الزاخر بنبذ الحرب والتطييف والتمذهب والحرص على الوحدة الوطنية.
وبناء عليه، قد تكون دراسة الشارع اللبناني، زد قراءته، انطلاقاً من مركّبات مزاجه وتعقيداتها الواصلة أحياناً الى حدود التعاكس، قد تسفر عن رؤية مختلفة لمسار الممارسة السياسية اللبنانية، إذ يظهر الشارع في لبنان، في مكان، وقياداته في مكان آخر، وهذا منتهى الخطورة.
تفصيلاً، يمكن الدخول في هذه القراءة من التالي:
1 ــ التحولات الطارئة على مزاج الشارع.
2 ــ اصطفاف الاحتقانات غير المسبوقة.
3 ــ احتمال انفلات الشارع على غرار ما يحدث في العراق.
تأسيساً على هذه المرتكزات الثلاثة، من المفيد القول بداية، انه في سنوات الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، كانت القيادات السياسية اللبنانية، ممسكة تماماً بقرار الشارع، الى حدود لا يبتعد فيه الحديث من الصواب، إذا قيل ان هوس الذبح على الهوية، والفرز السكاني أو التفجيرات المتنقلة، وجولات الحرب المراوحة بين الاشتعال البغيض والهدوء الحذر، إنما كانت قراراتها تأتي من فوق، آنذاك. كل أمر كان متروكاً في خدمة المشاريع السياسية المتطاحنة بما فيه أعمال النهب والسطو، ولكن القيادات السياسية، كانت في لحظة ما، تضبط كل فعل وأمر، ولذلك حين جاء القرار بإسدال الستار على الحرب، توقفت العمليات العكسرية، وبات الجميع ينشد طربية السلم الأهلي.
في الحال الراهنة، لا تبدو الأمور على ما كانت عليه في الماضي البشع، فالشارع في هذه المرحلة، مستغرق في التمذهب أو التطييف، يملأه الاندفاع، وتحرّكه الغرائز، وليس هناك من «أكثرية صامتة»، كما كان يردد رئيس الحكومة الراحل صائب سلام،
وفي الحالة الراهنة أيضاً، ثمة شارع يستهويه الخراب والفوضى (كلاهما كانا خلال الحرب بقرار سياسي)، وأكثر ما يتجلى ذلك بمقارنة موجزة. ففي سنوات التقاتل الأهلي كان حملة السلاح يقولون إن ذهابهم الى الحرب هدفه بناء لبنان الجديد، أما الآن، فمعان من مثل «ما هذا البلد؟» أو «فليخرب البلد!»، تستبد بأفواه الشارع مع كل ما تحمله من سوء دلالة وسلبية هدف!!!
على هذا الأساس يفترض التمعّن بمزاج الشارع وتعقيداته، وقوفاً فاحصاً لمخاطر التالي ومفارقاته أيضاً:
أ ــ بالنسبة إلى المسلم الشيعي، غدا حزب الله حاضناً للطائفة الشيعية، والأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، رمزاً فوق النقد والمساءلة، واذا لم يستدرك الآخرون هذا الأمر، فمن العبث فهم المزاج الشيعي، واستطراداً عبث التطلع الى إخراج لبنان من النفق، السيد نصر الله وفق هذه الصورة، هو الطائفة، وأي حديث خارج هذا التشخيص، ضرب من العمى وانعدام الرؤية، ولا ينطوي الحديث هنا، على أية مبالغة، حين يُقال ان التهجم أو إطالة اللسان على السيد نصر الله، يعني إطالة اللسان على الشيعة اللبنانيين.
هذه نقطة يجب ان يعيها أهل السياسة في لبنان لدى قراءتهم مزاج الشارع الشيعي، مضافاً إليها عناصر أخرى، أولها يبدأ من هاجس الشيعة بإعادتهم الى التهميش والحرمان، وثانيها يرتبط باتهامهم بعدم الولاء للوطن (راجع المقولات الأردنية والخليجية والمصرية)، وثالثها يتصل بشيوع السلفية الجهادية وتكفيرها للشيعة وصولاً الى حد لا يعترف بمقاومتهم اسرائيل وتسجيلهم انتصارين تاريخيين عليها في عامي 2000 و2006، ورابعها لا يخرج عن مفارقة مركبّة في الشارع الشيعي اللبناني، مضمونها ذاك العداء المطلق للسياسات الاميركية في لبنان، وتحفّظهم عن مقاومي هذه السياسات في العراق!!!
ب ــ بالنسبة إلى المسلم السني، لا شك في ان «تيار المستقبل» تحول الى إطار يجمع أكثرية الطائفة السنية، وإذ تلاقت معه «الجماعة الاسلامية»، فيعني ذلك تضافراً للقوى السنية، بعضها مع بعض، وهذا يفتح أقواساً كبيرة حين يصار الى توجيه اتهامات الفساد والارتباط الخارجي لهذه القوى، وكيفية وقوع صداها على الشارع السني وقراءاته لها، بأنها تصب في سياق استهداف المسلمين السنة، وانتزاع مشاركتهم في القرار السياسي اللبناني أو تقليص دورهم من خلال الافتراض المزاجي القائل بوجود ثنائية شيعية ــ مارونية، تسعى إلى الانقلاب على «اتفاق الطائف».
مثل هذا المزاج، لا يعوزه احتقان مضاف، وخاصة ان الحالة العراقية، من حيث القراءة السهلة والمبسطة لها، مقروءة لدى المسلم السني، بأنها خلع لسلطة السنة واستقدام لسلطة الشيعة، وتلك هي المفارقة في هذا المزاج أيضاً، اذ انه أقرب الى المدنية والليبرالية في لبنان، ومع السلفية الجهادية وحزب البعث في العراق، وبصورة أكثر وضوحاً، من المهم النظر ملياً، الى تركيبة مزاج المسلم السني اللبناني، التي تظهره شديد القرب من الولايات المتحدة في لبنان، وأبعد ما يكون منها في موقفه من الحالة العراقية.
ج ــ بالنسبة إلى الماروني ليس من المنطق بشيء، أن لا يفهم مزاجه القائم على هواجس فقدان أو تقليص دوره في وطن صنع له، ففي ظل تنامي الهجرة المسيحية وتراجع معدلات الإنجاب لدى الموارنة، ما أفضى الى تغيير التركيبة السكانية اللبنانية، يبدو الماروني اللبناني من خلال مزاجه السياسي الحالي، ساعياً لتثبيت صيغة وطنية تحفظ وجوده ومصيره، علماً ان مجمل قاعدة مزاجه وهاجسه التقليدي، انطلقت ماضياً من مخاوف التذويب في المحيط، فغدت حالياً متركّزة على مخاوف التهميش في الوطن الصغير!.
خلاصة القول، ان هذه المركّبات المزاجية يمكن حيالها القول، بأن معظمها غير متأت من شعارات يرفعها القادة السياسيون، إنما هي تراكم لـ«ثقافة الشارع» وميوله وتفاعله السلبي مع الأحداث والتطورات الطارئة، وهنا مكمن الخطورة، فحين يرسو الشارع على قناعة مفادها انه مستهدف والشارع الآخر (الطائفة ــ المذهب) يطارده، لا يبقى أمامه سوى إمساك نفسه بنفسه، وصناعة قراره على قاعدة مزاجه... وهنا بالضبط يمكن الشارع ان يحكم نفسه، وأمثولة العراق والصومال أمام الناظرين حيث لا مكان للسياسة وأهلها...
* كاتب لبناني