إيلي نجم *
في إطار الاستعدادات لزيارة تركيا في نهاية الشهر الجاري، اجتمع البابا بينيديكتوس السادس عشر بالفيلسوف الجزائريّ مصطفى شريف (المولود في عام 1956) الذي كان قد أصدر كتاباً بالفرنسيّة تحت عنوان: «الإسلام والتسامح» وأهدى الحبر الأعظم نسخةً منه. وقد نقل الفيلسوف والأستاذ المحاضر في جامعة الجزائر (وكان سفيراً سابقاً لبلاده في القاهرة ووزيراً سابقاً للتعليم العالي) كلاماً مفاده أنّ خمس عشرة سنة من الأصوليّة الدينيّة لا يمكن أن تحجب خمسة عشر قرناً من التاريخ المشترك بين المسلمين والمسيحيّين، على الرغم من الشوائب التي قد شابته. وأضاف أنّ القرآن، مثله كمثل الإنجيل، يأمر المؤمنين بالغفران ولا يحلّل استخدام العنف إلاّ في حالات استثنائيّة. وهذا ما ذهب إليه على كلّ حال القدّيس أوغسطينوس. وبعد أن أكّد البابا الحاجة إلى تفكّر موضوعيّ ونقديّ، أطلعه شريف على رسالة كان قد وجّهها الأمير عبد القادر الجزائريّ (1808-1883) إلى مطران الجزائر وقتذاك، وفيها أنّ حماية رجال الدين الكاثوليك أمر يدخل في صلب ممارسات الدين الإسلاميّ.
والحقّ أنّنا نراهن على إمكان تصويب نظرة الغربيّين إلى الإسلام وإلى العالَمَين العربيّ والإسلاميّ، ولا سيّما أنّ بعضهم في الغرب ما انفكّ يعمل على «انبعاث» (وليس على نشوء) حضارة إسلاميّة مسيحيّة، وانبرى يستدلّ بماضي هذه الحضارة المشتركة على مستقبلها.
في هذا السياق، يقوم المؤرّخ الأميركيّ ريتشارد دبليو بولِّيَت Bulliet (وهو الأستاذ المحاضر في قسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك، والمالك ناصية العربيّة، والمتخصّص في الإسلام الإيرانيّ) في كتاب يحمل العنوان الآتي: «الحضارة الإسلاميّة المسيحيّة، ماضيها ومستقبلها»، بتفنيد المطارحة الإيديولوجيّة التي ذاع صيتها في العقد الأخير من القرن العشرين، والتي روّج فيها «الداعية» صموئيل هانتنغتون ما زعم أنّه «صدام الحضارات». بل إنّ بولِّيَت يستعيد ويردّ ما كان قد ذهب إليه الأميركيّ بيزل ماثيوزBasil Matthews في عام 1920 في شأن «التصالح المستحيل» بين القرآن والعلم، وبين الإسلام والحداثة، وبين المسلمين والعالَم المسيحيّ. يقول، في صدد هذا الأمر، إنّ التطوّر التاريخيّ الذي عرفته المسيحيّة في الغرب كان موازياً إلى حدٍّ كبير للتطوّر المقابل الذي شهدناه في «دار الإسلام»، على الأقلّ في الفترة التي انتهت بنهاية القرن الرابع عشر الميلاديّ. وعليه، فإنّه يستدلّ بهذين التطوّرين المتوازيين على بعض القواسم المشتركة التي تمثّلت، في رأيه، في النظام الاجتماعيّ والدينيّ الذي قام وقتذاك في الغرب، من جهة، وفي العالَمَين العربيّ والإسلاميّ، من جهة أخرى. ثمّ يسأل: لمّا كان المؤرّخون في الغرب قد رأوا أنّ النظام الاجتماعيّ والدينيّ الذي ساد في العالَم المسيحيّ الكاثوليكيّ (الغربيّ) هو توأم النظام الاجتماعيّ والدينيّ الذي ساد أيضاً في العالَم المسيحيّ الأورثوذوكسيّ (الشرقيّ)، فلماذا يرفضون أن يتبيّنوا نظير هذين النظامين في الفترة التاريخيّة عينها في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة؟
ويضيف بولِّيَت أنّ الأزمة التي يتخبّط فيها اليوم العالَمان العربيّ والإسلاميّ ليست سوى أزمة «السلطة الدينيّة». وهي تتمثّل، في رأيه، في قيام الأنظمة السياسيّة السائدة في البلدان العربيّة والإسلاميّة بالحؤول دون قيام العلماء المسلمين بواجبهم في تجديد الأوجه التاريخيّة للإسلام. يقول المؤلّف، في صدد هذا الأمر، إنّ الغرب لا يزال يدعم هذه الأنظمة بعد أن أقام بعضها. ونسأل ههنا: إلى متى سيبقى الغرب يريد لنا ما لا يريده هو لنفسه وما لا نريده نحن، في أيّ حال، لأنفسنا؟
لكن يبدو أنّ «صدام الحضارات» يكون، في الأكثر، لمصلحة الحضارة التي غُلِبت على أمرها. فها هي الإمبراطوريّة الرومانيّة تمثل أمام الشعب الإغريقيّ الذي أخضعته بالقوّة العسكريّة وتتمثّل حضارته وتتماثل بها...
من جهة أخرى، يرد الكلام اليوم على عولمة اقتصاديّة، ومنذ الحادي عشر من أيلول 2001، إلى عولمة أمنيّة. وهو الأمر الذي قد يوفّر، في رأيي، شروط قيام نوع من «عولمة دينيّة»، إذا صحّ التعبير، قِوامها الإيمان بأنّ «إلهنا وإلهكم واحدٌ ونحن له مسلمون» (العنكبوت، 46).
وانطلاقاً من هذا الاعتبار، في وسعنا تناول مفهوم العدل مثلاً في المسيحيّة والإسلام لنتبيّن التناظر القائم بين النظم الاجتماعيّة والدينيّة المسيحيّة، من جهة، والنظم الاجتماعيّة والدينيّة العربيّة والإسلاميّة، من جهة أخرى، علماً أنّ مفهوم العدل الذي هو «أساس الملك» يكوِّن قِوام الاجتماع البشريّ والمنظومة الدينيّة. فالمسيحيّة اعتبرت العدل صفة ملازمة للذات الإلهيّة. وكذلك في الإسلام حيث «العدل» من أسماء الله الحسنى. وكان على علماء اللاهوت (المسيحيّة) والكلام (الإسلام) الذين تنبّهوا إلى واقع الشرّ في الأرض أن يعلّلوه من طريق إدراجه في خانة العدل الإلهيّ. أضف أن زحزحة مفهوم العدل من الطبيعة (كما بدا لنا هذا المفهوم في التصوّر اليونانيّ والإغريقيّ للطبيعة: phusis) إلى الله قد رافقها في المسيحيّة (بحسب القدّيس بولس) احتقار الطبيعة وما اعتُبرَ أنّه يدخل في نطاقها، كالجسد مثلاً، بسبب سقوطها «مع» الإنسان في «الخطيئة الأصليّة». أمّا في الإسلام، فقد استُبقيَ إلى حدٍّ كبير على هذا التصوّر من حيث إنّ اتّباع الميول «الطبيعيّة» لا يعني البتّة إشاحة الوجه عن الله. ولعلّ هذا الأمر يفسّر قيام علماء الكلام بإيلاء الجسد المقام الذي يعود له في الأصل.
وأختم بالقول إنّ ما يعزّز قيام حضارة إسلاميّة مسيحيّة هو تلازم مصائر الشعوب وحاجتها الماسّة إلى أخلاقيّات إنسانيّة مشتركة يُغلّب فيها الحقّ على الواقع، والعدل على الظلم، والحياة على الموت.
* كاتب لبناني