بولس خلف
إن أكثر من يسيء الى ذكرى الرئيس رفيق الحريري ومكانته وحجمه وإرثه هو بعض من يبدي حماسة منقطعة النظير في الدفاع عن المحكمة ذات الطابع الدولي. منهم من لا يؤمن أساساً بمبدأ العدالة، ومنهم من هو محكوم بجرائم اغتيال سياسي وغير سياسي، ومنهم من بنى أمجاده في الحياة العامة على الانتقادات المبرمجة للرئيس الأسبق لمجلس الوزراء. صحيح ان بين الذين يطالبون اليوم بإنشاء المحكمة ويعملون بكد من أجل ان ترى النور في أقرب وقت ممكن، مجموعة من المخلصين للرئيس رفيق الحريري. ولكن بمجرد أن قبل هؤلاء في صفوفهم المتقدمة بشخصيات سيئة الصيت والذكر، عرّضوا «جبهة المحكمة» لمخاطر جمّة. لقد ضربوا هالتها وأضعفوا صدقيتها، وبالتالي أضرّوا بفعاليتها.
لم يقل أي فريق سياسي لبناني مهما علا شأنه أو صغر حجمه إنه يعارض تأليف محكمة دولية لمحاسبة قتلة الرئيس الحريري ورفاقه. على رغم ذلك، شرعت «جبهة المحكمة» بمحاكمة نوايا، وقررت ان أطرافاً أساسية في البلاد تستخدم لغة مزدوجة من حيث إنها تدعم في العلن مبدأ إنشاء المحكمة بينما تعمل في السر على تقويضها ونسفها من أساسها. من هذا المنطلق أعدّت «جبهة المحكمة» العدة لبناء الهيكل القانوني للمشروع من دون شفافية، متبعةً سياسة الأمر الواقع في المراحل المختلفة لهذا المسار المعقد.
بمعنى آخر، اعتبرت المجموعة الحاكمة ان المحكمة شأن خاص يعنيها وحدها دون سواها واستبعدت الآخرين من المسألة وتصرفت وكأنهم ضالعون في الجريمة في أسوأ الأحوال، ويحاولون التغطية على القتلة في أفضل الحالات.
في ظل هذه المنهجية في التفكير والعمل، تولدت المعادلة التالية: بما أن الآخرين متهمون حتى يثبت العكس، وبما أنهم ليسوا أهل ثقة، لا يمكن مشاركتهم في هذه المسألة الحساسة. بكلام أوضح، من المستحيل ان تكون المحكمة ذات الطابع الدولي وليدة إجماع وطني. كي يمرّ هذا المشروع، يجب ان يتمّ فرضه على الآخرين.
من حيث أرادوا أو لم يريدوا، حوّل أرباب «جبهة المحكمة» هذه القضية الوطنية الكبرى الى موضوع انقسامي بدل ان تكون مسألة جامعة. اختاروا التصادم مع قوى سياسية كبرى تمثل شرائح واسعة من المجتمع، غير آبهين بأن حساسية المسألة تحتّم التعامل معها برويّة وتأنٍ كي لا تفتح أبواب الجحيم على البلاد من خلال تأجيج النعرات المذهبية والتسبب بانقسامات تلامس حدود المحظور.
إن طريقة إدارة هذا الملف الدقيق من المجموعة الحاكمة يثير الدهشة، لا بل الضحك. فمعركتهم خاسرة لا محالة حتى قبل أن تبدأ.
أولاً: لقد أساؤوا تفسير الدستور وعمدوا الى خرقه من خلال اعتبار مشروع المحكمة مجرد قانون معجّل وليس معاهدة، من أجل تجاوز رئيس الجمهورية. ولكن في نهاية المطاف، سوف يعودون الى رئيس الدولة كي يوقّع. وإذا تجاوزوه مرة أخرى، سيعودون إليه بعد عدة أشهر إذا ما قرر الرئيس ردّ أي قانون يأتي من مجلس النواب. هذا اذا ما انعقد المجلس وصوّت عليه.
ثانياً: لقد أخطأت المجموعة الحاكمة في حسابها المهل. فقد استحضرت مسودة مشروع المحكمة في خضم جلسات التشاور في تأليف حكومة وحدة وطنية بحجة انها تريد إقراره بسرعة. ولكن من المرجّح ان العقد الحالي لمجلس النواب سينتهي قبل ان يكون المشروع قد أكمل مشواره. الموضوع مؤجل الى شهر آذار المقبل على أفضل تقدير ــ هذا إذا لم يحصل اتفاق سياسي شامل يأخذ بعين الاعتبار مطالب المعارضة أو معظمها.
أقل ما يقال ان أداء الهواة الحاكمين في لبنان قد يتسبب بتعطيل إنشاء المحكمة الدولية. ينطبق عليهم القول الشعبي: حاميها حراميها.