وليد الزين *
ليس في لبنان فريق يملك شرعية وطنية كاملة تخوّله طرح نفسه كقادر على بناء الدولة الوطنية، وإذا نظرنا إلى المشهد السياسي نجد أن غالبية الأفرقاء عبارة عن حيثيات طائفية ومذهبية وإقطاعية، وبالتالي يصعب عليها إنشاء الدولة الوطنية الحقيقية. الغريب أن كل فريق يدّعي امتلاكه الشرعية، وكأن الادعاء وحده كفيل بإسباغ الشرعية. وإذا ما تتبّعنا سيرة معظم هؤلاء نجد أن تاريخهم حافل بالإساءة إلى الوطنية وقيمها، يستغلون الطائفية ويعملون على المحاصصة. وقديماًَ قال جورج نقاش: نفيان لا يشكلان أمة، هذا صحيح للغاية. لا تكفي النيات الحسنة لبناء الدولة.
حكومة اتحاد وطني؟ حكومة اتحاد وطني بين من ومن؟ بين من يخونون بعضهم البعض؟ هذا المنطق يعني بكل صراحة البحث عن تسوية لا عن حل، ويعرف اللبنانيون، إلا إذا كانوا فقدوا الذاكرة أو تعمّدوا فقدانها، ما جناه علينا منطق التسوية من ويلات، ولمن يريد أن يعرف الى أين أوصل منطق التسوية فليقرأ تاريخ لبنان. هل بنى وطناً ومؤسسات؟ هل أسس اقتصاداً؟ هل منع الفساد وبيع البلد للخارج؟ هل منع تراكم المديونية العالية؟ هل منع منطق المحاصصة؟ هل بنى دولة لديها المناعة الحقيقية تجاه أعدائها في الخارج والداخل؟ أم كرس منطق الوصايات على أنواعها وجلب الغم والهم والظلم والفقر والفاقة للناس؟ هل منع اتقاد العصبيات أم زادها توهجاً واتساعاً؟ هل ساوى بين المواطنين على أساس من العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وعلى أساس الحقوق والواجبات والكفاءات؟ ماذا فعل منطق التسوية غير الانحدار في البلد إلى مزيد من التأزم والمآزق على أنواعها، والمتضرر الوحيد هو المواطن الفقير من كل الطوائف، هذه هي الحقيقة وكفى كذباً وتزويراً للحقائق، السلوك السياسي لهذه الطبقة يعكس النمط المركنتيلي الذي تدار به البلاد، فالضريبة غير العادلة في لبنان لا تميز بين الناس على أساس طائفي؟ الضريبة عندنا في لبنان عمياء لا تميز إلا طبقياً. الضريبة لا تميز طائفياً ولكنها تميز طبقياً بين فقير أو صاحب دخل محدود أو تاجر بسيط لأي طائفة انتمى وبين ثري ومحظي ومقرب من السلطة وفاسد ومبيّض أموال ومضارب، وعلى قاعدة «من له يُعطى ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه».
وفاق واتفاق ووحدة واتحاد وتراضٍ ومراضاة، كلها مصطلحات زائفة لا قيمة لها، إنها مصطلحات التمييع والتزييف ولا تعبّر عن نيات حقيقية لبناء الدولة. وفي المقلب الآخر، إن من يرفض هذا المنطق لا لأنه يؤمن بأن هذه الدعوات لا تؤسس لقيام الوطن بل لأسباب أخرى، فلدى الجميع قواسم مشتركة، والذين يتمسكون بالتسوية الطائفية نسبة إلى الطائف يتمسكون بحكومة لا تملك شرعية لوجودها. وهنا يستحسن أن نذكّر بما قاله أبو حيان التوحيدي: «لا يصير الحق حقاً بكثرة معتقديه» وأعتقد أن هذا يكفي وينطبق على الجميع. إذ كلهم يتشابهون في عناوين كثيرة، الخلفية المذهبية التي تستعمل سلاحاً ماضياً لاستنفار العصبيات في وجه العصبية الأخرى، والغاية هي تحقيق مصالح القلة القليلة من الطبقة الحاكمة من كل الطوائف والمذاهب على حساب الكثرة الكاثرة من المواطنين من كل الطوائف والمذاهب أيضاً. أيها المواطن صدق أن الطبقة السياسية في لبنان تتفق في ما بينها أفقياً وتهبط عليك عمودياً ليس بالبركة واليمن، بل بالمصائب والويلات. أيها المواطن إن منطق الوفاق والتراضي والاتحاد لم ولن يؤسس لقيام الدولة العادلة التي تنشدها بل إن ما يؤسس لها هي القوة المستندة إلى إرادة وطنية حاسمة، ولك في التاريخ أمثلة كثيرة وشواهد أكثر، إن بلداً كألمانيا لم يوحد بغير القوة وإن بلداً كالولايات المتحدة لم يوحد إلا بالقوة وإن بلداً كاليمن كذلك لم يوحد إلا بالقوة، وليس للتفاهم مكان في مصير الشعوب واستقلالها وازدهارها ونموها إذا كان على الطريقة اللبنانية أي على طريقة المحترفين السياسيين عندنا، ولكن ربما تسأل في قرارة نفسك، ومن يمكنه أن يحسم الأمر في لبنان؟ وهذا سؤال مشروع والجواب هو ليست هذه الطبقة، لأن معظم هؤلاء تكمن قدرتهم في كونها تستند إلى المذهبية والطائفية والتبعية، والمذهب والطائفة والتبعية لا تبني وطناً، ولكن أين الأحزاب التي تدّعي أنها ليست طائفية، أين دورها؟ الجواب أنها تعاني أزمة قيادات ومحتوى ومن ترهّل خطير نتيجة ممارساتها وعدم صدقها أو وعيها في مقاربة الأزمة في لبنان، أضف إلى انغماسها في لعبة الطوائف والمصالح، حتى الآن لا توجد قيادات يمكن أن تحظى بثقة الناس لأنها تفتقر إلى القدرة على مخاطبتهم بل ربما لأن الموجودين منهم حالياً لا يشفع لهم تاريخهم البتة.
إن الأزمة في لبنان وإن كانت تتحمّلها الطبقة الحاكمة، إلا أن ثمة مسؤولية تقع على عاتق المواطن المساهم في تغييب دوره وتهميشه من خلال تلبيته نداء عصبيته على حساب عقله، في الانتخابات والمناسبات والمهرجانات، فيقع غالباً ضحية هذه التلبية، والغريب أنه يصر أحياناً على إسباغ الشرعية على القيادات نفسها المسؤولة عن أزمته المعيشية والاقتصادية والاجتماعية. المطلوب مراجعة الذات ومعرفة ماذا تريد أيها المواطن، وأن نعمل على استنهاض حالة الوعي الوطني الحقيقي بعيداً من هستيريا التمذهب والتطيّف.
إن التوجّه صوب تأطير حركة الوعي الأصيل وليس الوهمي سيساهم في بلورة قوة حقيقية عابرة لكل إشكاليات العصبيات يمكنها أن تنقذ الوطن وتأخذه إلى حيث يكون وطناً للجميع وفوق الجـــميع، واللبناني يســتـــحـــق هذا الوطن. كفى، لا بد مما ليس منه بد، فتجارب الشعوب عبر التاريخ كفيلة بأن تعطي العبرة للنهوض ولسنا حالة فريدة من نوعها كما تحاول هذه الطبقة إيهامك تيئيساً، بل يمكننا أن نفعل ذلك عندما نعير جمجمتنا إلى الله أولاً وإلى الوطن ثانياً، وأن نؤمن بأنفسنا وبقدراتنا وتفوقنا، فالحرية لا ينعم بها إلا المحلّقون.
* رئيس الهيئة التأسيسية لجمعية أبناء الوطن الاجتماعية